لدى شباب 25 يناير شعور بأن هناك من يريد وينفذ خطة خداع استراتيجى لإجهاض الثورة، وذلك بخفض سقف التوقعات والطموحات بعد الثورة، حيث يرون كيف تتآكل شرعية ثورتهم.
تلقت أجيال الخمسينيات والستينيات صدمة عندما تلقى مشروع بناء الدولة الوطنية ضربة موجعة فى يونيو 1967، كشفت ثغرات فى المشروع والدولة بعد سنوات من خطاب سياسى وإعلامى بلغ بالثقة فى النفس عنان السماء ورفع سقف الطموحات.
ثم تلقت أجيال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، صدمة أفدح، عندما رأت أن ما لم تستطع الولايات المتحدة وإسرائيل تحقيقه فى 1967، يتحقق بعد معجزة العبور والانتصار المجيد فى أكتوبر 1973، وتابعت هذه الأجيال فى عهد الرئيسين - الراحل أنور السادات والمخلوع حسنى مبارك - خطط تفكيك المشروع والدولة تأخذ مجراها فى التنفيذ بتزكية الاستهلاك على حساب الإنتاج، وبإلحاق الهزيمة بالعلم لصالح المال، وبالعدالة لصالح الظلم وبالحريات لصالح القهر وبيع أصول الدولة، وبمعايير للحراك والفرز الاجتماعى والطبقى والمهنى لصالح اختيار الأسوأ، وضرب عرض الحائط بمعايير الجودة وبقيم الشرف والنزاهة حتى كاد الحق يعتذر للباطل.
وبينما كان الحل بعد نكسة 1967، وانكسار شرعية يوليو 1952، تجديد شرعية النظام ورهنها بإزالة آثار العدوان، والذى تمت ترجمته فى غناء الطلبة "اللى شبكنا يخلصنا" كان الخروج من إحباطات الأجيال التالية باغتيال السادات على يد التطرف الذى أطلقه هو نفسه، ثم بإجبار جيل شباب 25 يناير خلفه حسنى مبارك على الرحيل بعد 30 عاماً تم خلالها "سفلتة" البلد إثر ثورة عظيمة أطلقها شباب يريد بناء مشروع الدولة الوطنية الحديثة.
يشير المشهد فى مصر هذه الأيام إلى شعور جيل 25 يناير بالإحباط نتيجة صدمة تلقاها، حيث يرى أن هناك تأخراً فى تحقيق أهداف الثورة كاملة يجعلها ثورة "ناقصة" حتى باتت "الثورة المضادة" تكسب أرضاً كل يوم، بل وتطارد الثوار فى كل شارع وميدان ومؤسسة، فضلاً عن تأجيل صياغة دستور جديد للبلاد، وتصميم انتخابات صوتت فيها الأغلبية لصالح من لم يشاركوا فى الثورة، ورفضوها فى البداية لصالح أعدائها، بعدما لعب الإعلام والمال السياسى نفس الأدوار القديمة بأشكال مختلفة، وصولاً إلى تلويح دفاع مبارك أمام المحكمة بأنه لا يزال الرئيس الشرعى للبلاد، وإمكان تراجعه عن قرار تخليه عن رئاسة الجمهورية فى 11 فبراير العام الماضى، وتكليفه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد.
تلك الأمور وغيرها تثير التساؤلات لدى شباب 25 يناير، عما إذا كان هناك من يريد وينفذ خطة "خداع استراتيجى" تم تنفيذها بكفاءة تستهدف عمداً خفض سقف التوقعات والطموحات بعد الثورة، والتى كانت بلغت عنان السماء وهم يرون كيف أجبروا الديكتاتور ونجله على الرحيل؟!
هناك خطورة من تنامى هذا الشعور لدى الشباب، وهم يرون كيف تتآكل شرعية ثورتهم، وزواله بات مرتبطاً بشكل جلى ببناء الوطن ومؤسساته على الأسس الصحيحة لبناء الأوطان، ووفق معايير الجودة، وبالمشاركة فى صنع القرار مروراً بإرساء قيم العدالة والمساواة، وانتهاء بالشفافية والمحاسبة، وتطوير مصادر المعرفة والمعلومات ومحاسبة المسئولين عن أى عمليات تضليل وتزييف وإعادة الاعتبار للعلم والإنتاج، تحقيقاً لأهداف الثورة.
فقد بعثت الثورة برسائل إلى المستقبل مفادها أن الوطن لن يتم تقزيمه بعد الآن ليتجسد فى شخص الحاكم أو المسئول، وأن المواطن له الحق فى محاسبة هذا الحاكم وذاك المسئول، وأن الانتماء هو للوطن وليس للعائلة أو عصابة، وأن المؤسسة ليست عزبة رئيسها، وممتلكات الشعب ليست بستان الحاكم وأزلامه، والقوة الغاشمة لم تعد قانوناً، ووسائل الإعلام لن تستمر منابر للكذب والتلفيق والتدليس، والدين ليس وسيلة للسيطرة، وآياته ليست تبريراً للخنوع، حيث بدون ذلك تصبح ثورة 25 يناير ثورة ناقصة اكتفت بتغيير وجوه.
هكذا يبدو الشعور بالصدمة مفهوماً، فالحركة السياسية منذ 11 فبراير 2011، تعكس محاولات بعض الأطراف احتكار الثورة، وإطلالة ممارسات لا تمت بصلة نسب ومصاهرة لأساليب النظام السابق، لاسيما نهج الإقصاء السياسى والتدليس الإعلامى، وفى مناخ كهذا يمكن أن تتعرف بسهولة إلى نفس الوجوه والمجموعات، وأن تجد تلك بدورها من يعبر عنها ويحمى مصالحها بوجوه مختلفة.
لا تحتاج مصر هذه الآونة إلى اختراع العجلة، ولا إلى إعادة إنتاج مادة تشفٍّ وتشهير، وإنما تحتاج إلى إحياء العقل الجمعى الوطنى لإجراء مراجعات قانونية بالأساس للسياسات التى قننت الظلم والنهب، وخلقت مجموعات مصالح لا تزال بعضها قائمة للدفاع عن مصالحها أو تجد من يدافع عنها، كما تحتاج إلى حوار وطنى مع شباب ثورة 25 يناير وليس المنتفعون وأنصاف الرجال من أجل عقد اجتماعى جديد، وتحديد السياسات العاجلة والآجلة والتحديات الداخلية والخارجية لتحديد ماهية الهوية الحضارية والسياسية التى تنطلق منها مصر للمستقبل، فالانتخابات والمجالس والهيئات ومرشحو الرئاسة والدساتير فى مرحلة كهذه تمر بها مصر ليست هى الحل النهائى.
المستقبل لمن يبنى دولته ومؤسساته، وليس لمن يتعامل مع أمر واقع أو ينتظر ما ستفرضه عليه الظروف.