حين يولد المرء فى كهف ضيق مظلم، يتنفس فيه بنصف رئة، ويقف فيه نصف انحناءة، ولا يرى إلا مد ذراعه، يألف حياة السجون، ويأتى يوم يتفاخر فيه على من هم أشد انحناءً وأضيق سجناً. وحين يتصدع أحد الجدران ينفذ ضوء شاحب يضىء زنزانته، فيرى السجن من الجدار إلى الجدار، ينتشى طرباً وكأنه ملك الدنيا بقضها وقضيضها. وحين يسقط جدار يفصل زنزانته عن زنزانة غيره، يدرك أن الدنيا لم تعد كما كانت، وأنها أكبر من غرفة ضيقة فى إحدى الكهوف المظلمة. لكن الحمق كل الحمق أن يعتقد وليد الظلام أن الدنيا مجرد كهفين متلاصقين.
علينا الآن أن نتنفس بكامل رئتينا كى تدب الحياة فى رئتنا المعطلة. علينا أن نقف قدر استقامتنا، وأن نتقدم فوق حدود الزنازين التى سجننا فيها خوف لم يفارقنا منذ نعومة أظفارنا.
وعلينا أن نخلع فلسفة الانحناء لكل سقف والانثناء مع كل ريح. فالحرية تجثم فى الطرف الآخر من كل ارتعاشة خوف. علينا أن نتمرد على فلسفة السنابل، وأن نمشى مرفوعو الهامة كما قدر لنا الإله أن نسير.
وعلينا أن لا نكتفى بشبر أو شبرين من لجام القهر خوفاً من سياط الجلادين، ونعتقد أننا تحررنا من نير الظلم، وسطوة الظلام. حين فتح الثوار كوة فى جدار المذلة، فنظرنا إلى عرينا وإلى رقصنا فى الظلام حول أجداث رجولتنا، أدركنا أن زمنا قد ولى، وأن ساعة الدهر قد أدارت عقاربها للأمام.
اليوم ندرك أننا قد حملنا بذرة الثورة فى أصلابنا فورثناها أبناءنا عن غير قصد. ندرك اليوم أن البلاد لم تكن عاقراً، بل كانت تحمل فى رحمها بذور كرامة وتتنظر حتى يكبر الصغار. ها هم الصغار قد كبروا، فصاروا أطول أعناقاً من سامقات النخيل ورايات أعلامنا الصفراء.
تعلمنا اليوم أن نسير إلى أبعد مدى فوق أخوف مخاوفنا، دون أن ترتعد فرائصنا أو تصطك أسناننا. تعلمنا من صغارنا أن فلسفة النخيل تعلو على فلسفة السنابل، وأن الأرض التى حملت فى الخوف سفاحاً قادرة على ولادة الحرية فى وضح النهار. وعلمتنا الحرية أن رؤوسنا يمكنها أن تتمدد فوق كل سقوف القهر والاستبداد، وأننا قادرون، بإذن الله، على صناعة المستحيل.
