قدر الله لمصر أن تكون بلداً مختلفا فى كل شىء، فى أرضها وشكلها وشعبها حتى حكامها وأمرائها، فإنهم لم يكونوا يوما حكاماً كباقى حكام الدنيا لهم حقوق على الشعب وعليهم واجبات تجاهه، وهذا هو العقد الذى تعارفت عليه كل أنظمة الحكم فى التاريخ إلا مصر.
فعلى امتداد صفحات التاريخ تجد هذه البلدة الصابر أهلها لا تفيق أبداً من ظلم وجبروت الحكام، فلا تكاد تتخلص استعمار غاصب حتى تقع فى غياهب حكم فاسد وظالم، وكأن الله قد قدر لهذا الشعب أن يكون خير أجناد الأرض بطول صبرهم وثباتهم وجلدهم فى محاربة الظلم والاستبداد.
ولكان أهم ما يميز حكام مصر دون غيرها من بلاد الدنيا هى نظرتهم لهذا البلد ولشعبه، فهى لم تكن يوماً نظرة حاكم لبلد يملكها شعبها وتملكه إنما نظروا إليها نظرات متباينة ومختلفة على قدر اختلاف طبيعة الحكم نفسه.
فنجد المستعمر الغاصب الذى نظر إليها على أنها عزبة اشتراها واشترى أهلها معها كل ما يدور بخلده نحوها هو كيف ينهب من ثرواتها، وأن هذا الشعب ما هو إلا عبيد إحسانه، وما كادت مصر تتخلص من هذا الحكم الغاصب حتى وقعت فى أيدى حكم الملوك الذين اعتبروها تركة ورثوها عن آبائهم وورثوا معها هذا الشعب الذى ما خلق إلا ليخدم سيده ويسهر على راحته ويكدح للحفاظ على تلك التركة وزيادة ريعها.
حتى بعد أن أراح الله مصر من حكم الملوك والأمراء وأراد لها أن تكون جمهورية النظام رزقها الله برؤساء ليسوا كباقى رؤساء العالم رؤساء تخلوا عن اسم النظام الملكى ولم يتخلوا عن نظرته، فلا هم أبقوا على المسمى ولا هم تعاملوا على أساس طبيعة الحكم الجمهورى.
فكانت نظرة أول رؤساء الجمهورية نظرة لا تخلو من الشفقة فنظر إليهم على أنهم مجموعة من البؤساء العاثر حظهم أجاعهم النظام الملكى، فجاء هو لإطعامهم فلم يهتم إلا بمأكلهم ومشربهم وتناسى حق هذا الشعب فى حرية حقيقية وديمقراطية كاملة ولكأن هذا الشعب لا يمثل سوى مجموعة كبيرة من أسماك الزينة لا تراهم سوى داخل الأقفاص فكانت بالفعل أكثر ما يميز التجربة الناصرية هى قيود الحرية فلا يسمح بالتفكير سوى ما يفكر فيه فاختزل حرية البلد كله فى أمنه الشخصى واختصر وعى شعب بأكمله فيما يراه هو، ومن يرى غير ذلك فقد خان اليد التى تمتد إليه بالطعام.
ثم أتى عهد السادات، ذلك الفلاح المصرى بكل ما تحمله الكلمة من معان، فتعامل مع مصر على أنها قطعة أرضه الغالية التى يضحى من أجلها بالغالى والثمين، فلا يمكن التفريط فيها، وإنما يجب أن تبقى تحت يده مهما كلفه ذلك، وهذا الشعب ما هو إلا أبناؤه الذين يجب أن يطيعوه من باب وجوب طاعة الوالدين، فإذا خالفوه فلا يأتى فى ظنه سوى أن أحد الغرباء الفاسدين قد غرر بهم ولا مانع من تأديبه ومعاقبته حتى يعودوا لرشدهم فهم لا يجب أن يروا إلا ما يرى لهم، فهو الأوعى بمصلحتهم أكثر من أنفسهم.
وجاء عصر المقلوع الذى لم يشهد تراب مصر عصر كعصره فى قذارة رائحته وقبح منظره، ذلك العصر الذى انتشر فيه الفساد فى كل شىء، لأنه تعامل مع المصريين على أنهم "شوية رعاع" كما جاء فى أحد خطبه لا حق لهم ولا حرمة لدمائهم ولا قيمة لأحلامهم، وهم وما يملكون تحت قدمه يوزع ما يشاء على من يشاء فأطلق عليهم كلابه وسلط عليهم زبانيته.
كانت نظرته للشعب نظرة الخسيس المتكبر المتعالى، فكل ما حملت الأرض لا قيمة له سواه، يبيع أى شىء من أجل ذلك الكرسى الملعون، فخان بلده من أجل إرضاء من كان يظن أنهم يحمونه وباع وطنه لإسعاد من ظن أنهم سينقذونه، فأذل الشعب لإرضاء نفسه الخبيثة وساعده فى ذلك شياطين الإنس الذين اختصروا له كل حقوق الشعب وحريته وآماله وأحلامه فى كلمة وضيعة تخرج من فم دنىء "المنحة يا ريس"، كلمة كرهها الناس كرههم لقائلها ومستقبلها، كلمة تعبر عن مدى ما وصلت إليه مصر فى عينه وعين كلابه.
وما كادت مصر تستريح من هذا الكابوس حتى أتى لسدة الحكم مجلس الجنرالات الذين نظروا لمصر على أنها ثكنة عسكرية أكبر حجما من ثكناتهم التى نشأوا فيها وما صلح فى تلك الثكنات هو ما يصلح لغيرها فأداروا الدولة بنظامهم الذى ألفوه، فوجدناهم يتخبطون كمن هو فى ميدان القتال وانقطعت عنه الأوامر، فأصبح هو المكلف بإعطاء الأوامر من غير تفكير وبنفس البيروقراطية التى نشأ فيها التى تتلخص فى "نفذ الأمر ثم تظلم"، ومن لا يطيع الأوامر فجزاؤه جزاء عصيان الأوامر، وهو ما نفذه فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء.
إننى اليوم أبعث برسالة إلى القادم ملخصها أن نظرتك إلينا والى بلدنا، هى ملخص ما نريده منك، فما أنت إلا أجير نستأجرك لبعض شئوننا فإن أصبت جددنا لك العقد فترة أخرى وأخيرة وإن لم يكن النجاح حليفك فلتتنحى جانباً ولتترك الفرصة لغيرك، وهذا ما نرجوه "تداولا سلمياً للسلطة يسمح بالتعددية والاختلاف فهكذا تبنى الأمم".
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
mohamed soudi
نازلين