كان مراد بك على فراش الموت بينما خادمه عم يوسف جاثيا على ركبتيه يبكى بحرقة شديدة، وتخرج منه آهات مكتومة تعتصر كل جزء من جسده، يمسك يد سيدة يتحسسها تارة ويقبلها تارة أخرى، وكأنه يريد أن يشبع عينيه برؤية الرجل الذى عاش عمره كله تحت قدميه، ويشبع جلده بلمسة لأطول فترة ممكنة.
فتح الرجل الثمانينى عينيه بصعوبة وفتح فمه بمعاناة، فانتفض عم يوسف وكأنه بعث من جديد، فها هو مراد بك يعود مرة أخرى إلى الدنيا. ربما كان فى غيبوبة مؤقتة وأفاق منها، وليس بعيدا أن يقوم بعد عدة ساعات ليتحرك فى قصره الكبير مرة أخرى مستندا على عصاه التى كثيرا ما أشبعه بها ضربا، لكن الخادم الأمين على أتم الاستعداد لنسيان كل الإساءات السابقة بشرط أن يعود سيده إلى الحياة.
أوقف أفكار عم يوسف صوت ضعيف خرج من مراد بك:
- يوسف
- بلهفة: أيوه يا سيدى أنا تحت أمرك
- قرب منى.. عايز أقولك حاجة مهمة
- وقف عم يوسف وركع ليدنو بأذنيه على فم مراد بك: أؤمرنى يا سيدى وتاج رأسى
- من كام سنة حسيت إن أجلى قرب.. وسألت نفسى يا ترى بعد ما أموت ثروتى دى كلها هتروح لمين وأنا مليش ولاد؟ أكيد هتروح لولاد عمى اللى عمرهم ما ودونى ومستيين موتى من سنين
- مقاطعا: ربنا يديك طولة العمر يا سيدى إن شالله هما اللى يموتوا كلهم وأنا كمان وأنت لأ
- فى ضيق: اسمعنى ومتقاطعنيش علشان أنا مش قادر أناهد.. المهم استدعيت المحامى وطلبت منه يكتب وصيتى ويسجلها فى الشهر العقارى.. ووصيت بنص ثروتى لملاجئ الأيتام وفعل الخير.. وبالنص التانى ليك أنت بما فيها القصر ده.
- منتفضا وكأن ثعبان لدغه: ببب.. بتقول إيه يا سيدى القصر ده ونص ثروتك ليا أنا.. يا سيدى أنا مش عايز حاجة.. أنا عايزك بس تقوم لى بألف سلامة.
- أشار له ليقترب مجددا: اسمع بس.. أنت اتولدت فى القصر ده، وأبوك الله يرحمه فضل فى خدمة أبويا لحد ما مات، وأنت فضلت معايا أكتر من خمسين سنة، حتى قعدت تأخر فى جوازك لحد ما فاتك القطر، كان لازم أضمن لك تعيش الباقى من عمرك مرتاح، وياريت لو تدور لك على واحدة تتجوزها وتعمل عيلة تملى عليك الدنيا، أنا كان نفسى ربنا يرزقنى بعيل يشيل اسمى ويورثنى، لكن آدى الله وآدى حكمته.
بدأ صوت مراد بك يخفت وعينيه تدوران فى حركة غير منتظمة قبل أن تغمض نهائيا، فأمسك عم يوسف بيديه وأخذ يربت عليها برفق، فيجدها أصبحت باردة كقطعة ثلج، وضع يده على صدره، فإذا بقلبه قد توقف.
أقيم سرادق ضخم للعزاء ظل فارغا غالبية الوقت. أنهى المحامى إجراءات نقل التركة سريعا، وبات عم يوسف الخادم سيدا يملك قصرا كبيرا وعدة عشرات من الأفدنة فضلا عن أموال كثيرة بالبنك.
كانت الأيام تمر كئيبة على عم يوسف داخل قصره، لم يكن يجرؤ على طلب شىء من السفرجية والخدم الآخرين، فكان يقوم على كل شئونه بنفسه، حاول الخروج أكثر من مرة للتنزه بـ"الكارتة" كما كان يفعل سيده الراحل، لكنه لم يكن يقوى على مقاومة ضوء الشمس. حاول عد المرات التى خرج فيها من القصر طوال نحو 55 عاما عاشها فى هذه الدنيا فوجدها لا تتجاوز أصابع اليدين.
لم يستطع النوم على السرير رغم كثرة محاولاته، يقضى عدة ساعات فى أرق يتقلب ويعدل أوضاعه عشرات المرات، قبل أن يستسلم للأمر الواقع ويسحب المخدة ويفرد جسده على الأرض، ليغرق فى النوم بعد عدة دقائق.
وجد عم يوسف ضالته فى "حسين" حارس القصر، وجده قوى الشخصية صارم التقاسيم صوته جهورى، يتعامل معه بغلظة رغم علمه بأنه يخاطب صاحب القصر وولى نعمته، أصبح عم يوسف يقضى غالبية يومه إلى جواره على أريكة يعلوها سقف خشبى بجوار السور الخارجى، وبعد عدة شهور اتخذ عم يوسف قرارا جنونيا.
عرض على "حسين" أن يتنازل له عن تركة البك ليكون سيد القصر الجديد، بشرط أن يسمح له بالعمل خادما، لم يصدق حسين فى البداية لكنه فوجئ بجدية العرض فوافق على الفور، وعاد عم يوسف إلى العمل الذى لم يستطع فراقه، خادما تابعا يتكلم مع سيده هامسا مطأطأ الرأس كامل الولاء، يقضى يومه فى السمع والطاعة وليله فى غرفة تحت السلم.
لكن الطرفين لم يرتاحا فى الوضع الجديد، حسين يتذكر وضعه الحقيقى كلما رأى عم يوسف، والأخير لم يقتنع بأن السيد الجديد سيدا فعلا، فمن تعامل مع البكوات الحقيقيين لا يمكنه التعامل مع شخص لحق بقطار الأبهة متأخرا حتى وإن علا صوته واحتد طبعه.
لذلك كله كان الانفصال هو الحل، جمع عم يوسف ملابسه فى "بؤجة" وخرج من القصر ليلا بعدما ودعت عيناه كل ركن فيه، هام على وجهه فى شوارع المحروسة عدة أيام حتى أوصلته قدماه إلى المكان الذى قرر أن يقضى إلى جواره بقية حياته.. قبر يوسف بك.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عمرو منصور
ولكن اكثرهم لا يعقلون
انا فهمتك
عدد الردود 0
بواسطة:
عصام الجزيرة
كان ينبغى تاهيل عم يوسف كى يكون سيد القصر ..
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد الصغير
إستمرار العبودية يجعل العبيد يحنون لها بعد التحرر
عدد الردود 0
بواسطة:
سامح - مصر
من أبناء مبارك وأفتخر
عدد الردود 0
بواسطة:
سامح - مصر
من أبناء مبارك وأفتخر
عدد الردود 0
بواسطة:
يحيي رسلان
ميراثنا هو ميراث النبوة
عدد الردود 0
بواسطة:
هشام الشربيني
الأخ سامح
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد الشيخ
قصة قصيرة من وحى المقال
عدد الردود 0
بواسطة:
samah
يا جامع التمر
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد نادر العوضى
نسيت شخصيات أخرى فى القصة