سيكتشف المصريون تدريجياً خطأهم التاريخى، بإجراء انتخابات برلمان الشعب قبل إعداد دستور البلاد، وقبل اختيار رئيس للجمهورية، وسيدرك ساعتها القاصى والدانى أن هذا البرلمان يفتقد كثيراً من الشرعية، لاسيما أن دستور البلاد معطل ونحن بانتظار مخاض جديد لدستور جديد يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويجد توصيفاً شرعياً بينه وبين مؤسساته العسكرية والقضائية والتشريعية والتنفيذية.
لأن البرلمان القادم لا محالة سيصطدم بأمور سياسية ترتبط والشارع المصرى المكبل بهموم وقيود اقتصادية، وسيظل تعديل أم إنشاء جديد للدستور مشكلة المشاكل لتعدد التيارات والمطامح والآمال فى مصر المحروسة، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بالطرح السياسى للمرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية وفكرهم الاقتصادى وأيديولوجياتهم الفكرية حول قضايا التعليم والصحة والعلاقات الخارجية، والتى ستظهر شيئاً فشيئاً، هذا من ناحية، من الناحية الأخرى، منذ أيام تم إعلان اتفاق بين عدة أحزاب على تولى أحد أقطاب المركز الأول فى انتخابات مجلس الشعب رئاسته، وأن يكون وكيلاه الفائزان بالمركزين الثانى والثالث فى ذات الانتخابات البرلمانية.
وهذا النهج الجديد لم يستند فى شرعيته إلى إجراء دستورى موجود وقائم بالفعل، ولم يتم إجراء استفتاء شعبى عليه، لا سيما أنه برلمان الوطن كله، وليس برلمان مجموعة أحزاب فازت بالفعل فى انتخابات أقل ما توصف بأن جاءت على عجل دونما استعداد أو تهيئة، لأن الشعب نفسه كان مشغولاً بألف ألف قضية.
وسيفاجأ البرلمانيون الجدد، فى برلمان ما بعد الثورة، أنهم ليسوا فقط أمام قضايا مصيرية ينتظرها الشارع الذى هرول لصناديق الانتخاب من أجلها، ليس أهمها الصحة والتعليم والمرافق، بل تبقى قضيتان هما الفيصل فى بقاء هذا المجلس من حله سريعاً حاملاً معه ذكريات الفشل فى تحقيق آمال المصريين.
القضية الأولى هى المواطن نفسه، الذى ظل طيلة ثلاثة عقود هى مدة الحاكم المخلوع مبارك، وهو يعانى من ذل العيش ومرارة العيشة نفسها، لذا فهو يتطلع بعد أن خرج مارداً من القمقم غير ساكن أو راكد أن يحيا ويقرر ويشارك ويستفسر ويعلن عن رأيه ويغضب ويريد.
وهذا ما لم يضعه أغلب النواب الجدد لهذا البرلمان، فبعضهم حصر قضيته فى من يرأس المجلس، بينما ذهب آخرون فى تشكيل الحزب الحاكم، وهو حزب الأغلبية، قاصدين به حزب البرلمان لا حزب الوطن، فلم يكن أبداً الحزب الوطنى المنحل معبراً عن صوت الشعب، بل كان بوقاً لحفنة سجناء لا يزالون قابعين بـ"طره" بانتظار حكم قضائى فى تهم تاريخية ستذهب ببعضهم إلى مظلة النسيان.
أما القضية الثانية، وهى الأخطر، قضية الحاكم أو الرئيس أو المشرف على هذه البلاد، أو أى اسم آخر سنراه فى الأيام اللاحقة، فالأحزاب التى دججت أسلحتها الدعائية والخطابية للوصول إلى المجلس وأروقته فى ظنها أن بوصولها هذا ستحكم البلاد من خلال شرعية المجلس سيد قراره، رغم أن هذه الشرعية منتقصة فى ظل دستور غائب مما سيجعل قطار الوطن يتعطل لشهور طويلة.
والمجلس القادم، لا محالة، يرى أن من حقه وضع مواصفات وشروط جديدة فى من سيتولى إدارة البلاد أربع سنوات قادمة، وسنرى العجب فى بعض هذه الشروط، والمجلس فى ذلك يظن أنه يعبر عن رأى الشارع الذى بدا بعد الانتخابات منقسماً ومفتتاً أكثر مما كان قبلها، فلقد أسهمت الانتخابات، بشكل غير مقصود، فى تفتيت آراء هذا الشعب الذى ظل ثمانية عشر يوماً مرابطاً ومجاهداً لا يقسمه قاهر، ولا يفتته طاحن.
وهذا المجلس، الذى سينقل رأى الشارع للجهات السيادية، عليه أن يعى جيداً أنه جدير بحكم التجربة فى صناعة قراره، لذا فلا ينبغى لمجموعة أحزاب أن تقرر شأناً سياسياً دون الرجوع إلى هذا الشعب الذى أوصل تلك الأحزاب إلى قاعة المجلس، وعلى المجلس نفسه أن يتخلى عن تاريخه السابق أيام الدكتور فتحى سرور وحزبه الحاكم، وأن المناقشات لم تعد صورة لممارسة الديمقراطية، بل ينبغى أن تكون خطوة لتحقيق مطالب هذه الأمة.
وإذا كان للمجلس رأى فيمن سيحكم مصر لاحقاً، فعلى أعضائه ألا يخطئوا الظن بأن الحاكم فى مصر يولد من بطن أمه حاكماً ووالياً على شعبه وأمته، بصفات وسمات فطرية غير مكتسبة، وألا يجدد سوء الظن أيضاً من فرضية أن للحاكم ما يسمى بالكاريزما السياسية يأتى بها إلى سدة الحكم، وربما يخرج عن هذا التعميم بعض الحالات الاستثنائية لصورة الحاكم فى البلاد العربية.
وهذا التعميم لم يأتِ من فراغ، إنما من خلال استقراء الأدبيات التى تناولت الحياة الشخصية للحكام وكذلك من خلال السيناريوهات التاريخية اليومية التى كانت تعد للخلفاء فى العصور الإسلامية ومن تبعهم من رؤساء وحكام وسلاطين اعتلوا عروش بلادهم وأوطانهم إما بالدين أو بالمال والعطاء أو بالسيف، وربما فى بعض الأحايين بضعف الشعب نفسه.
وفى إشارة سريعة تختلف صورة الحاكم فى الدول الأوروبية عنها فى البلاد العربية، حيث حياة الرئيس هناك ملك مشاع لشعبه، واستحالت حياته الشخصية مرتعاً خصباً للمتطفلين أو حتى للمواطنين العاديين الذين تهمهم معرفة كل صغيرة وكبيرة عمن يحكمهم ويقود أوطانهم، بخلافنا نحن الملاك الشرعيين لأوطاننا الذين يغيب عنا الكثير من حياة من يوردنا كالإبل نحو الماء، أو كما يظن هؤلاء الحكام وهم غافلون عن حقيقة مفادها أن الشعب يريد.
فهل سيقوم المجلس مثلاً باستجواب علنى للمرشحين المحتملين للرئاسة؟ إن هذا لا يدخل فى اختصاصات المجلس، رغم أننى أرى أنه من صميم اختصاصاته الراهنة، أولا لعدم وجود مادة بالدستور تمنع الاستجواب لأن الدستور نفسه غير موجود.
ثانياً المجلس لن يكون يوماً فى بلد صنع الحضارة وصدرها للعالم ميداناً للسجال الكلامى ولفرض سيطرة حزب على آخر، بل هو صوت معبر عن شعبه الذى أتى به إلى البرلمان، وعليه أن يعى جيداً هذه الحقيقة، وأن من جلس على مقعد النائب إنما أتى بفضل هذا المواطن الذى يريد.
وإذا كان المجلس شعبياً حقاً فهل دوره لن يتجاوز وضع توصيف للرئيس بل سيشارك فى اختيار حاشيته وبطانته، لاسيما أن مصر اعتادت أن هذه الحاشية لابد أن تضع عدة سيناريوهات لبعض الصفات التى لابد أن يظهرها هذا الحاكم على أنها فطرية وطبيعية لديه وغير مكتسبة، مثل العدل والعقل الراجح والشجاعة المطلقة، والسخاء والعطاء بغير حدود، وبالتأكيد الوقار فلا يجب أن يكون مبتذلاً ساخراً أو ضاحكاً مثيراً للضحك والسخرية.
وإلى أن يقوم المجلس بمهامه المنوط بها، وأن ينقل صوت الشارع وهمومه ومطامحه لا مطامح النواب، وآمال الشعب نفسه لا طموحات شخصية لأفراد امتلكوا الحصانة، عليهم أن يجددوا العهد دائما بالعبارة السحرية "الشعب يريد".
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر حسن بيومي
التضليل والتظليل والمحو