أحمد الصغير يكتب: التشكيل السينمائى فى ديوان "نشيد للحفاظ على البطء"

الأربعاء، 18 يناير 2012 09:35 ص
أحمد الصغير يكتب: التشكيل السينمائى فى ديوان "نشيد للحفاظ على البطء" د. أحمد الصغير

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عبدالرحمن مقلد شاعر من الشعراء الذين قدموا أنفسهم للوسط الثقافى المصرى والعربى، من خلال فوزه فى المسابقة الأدبية المركزية (دورة نجيب محفوظ ) الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية بالجائزة الأولى لعام 2011، وبصدق يستحق ديوانه الأول الذى جاء بعنوان "نشيد للحفاظ على البطء" الجائزة الأولى فى المسابقة الأدبية، وهنا يتبدى سؤال مهم، لماذا منحته لجنة التحكيم الجائزة الأولى؟ يبدو لى أن الشاعر عبدالرحمن مقلد شاعر يمتلك صوتا خاصا من خلال أدواته الشعرية التى تنوعت داخل الديوان، ومن ثم فإنه اهتم بتفجير أدوات شعرية مغايرة داخل الديوان مثل (اللغة والمجاز والصورة والذات وعلاقتها بالآخر)، فهو لم يرتكز على السرد التقليدى النمطى داخل القصيدة، لكنه اهتم كثيرا بعملية تفجير السرد نفسه لصياغة مجموعة من السرود الشعرية المختلفة، متجاوزاً اللغة النمطية والصورة الشعرية المستهلكة فى الخطاب السائد، ومن ثم فقد جاء الديوان فى أربعة عشر نصا شعريا معتمدا على التشكيل اللغوى بصفة عامة، والتشكيل السينمائى بخاصة من خلال الارتكاز على روح التناص داخل الديوان والرمز الشعرى أيضا، وقبل الولوج فى عالم الديوان ينبغى أن نقف على العتبة الأولى للديوان، وهى العنوان الذى جاء فى صيغة مخاتلة، كيف يكون النشيد للحفاظ على البطء؟ وتكمن المخاتلة هنا فى عملية التركيب اللغوى نفسها، فقد جاء مناقضا للمنطق الشعرى، حيث إن النشيد يكون للحفاظ على الحماس الجماهيرى، ودغدغة مشاعرها، ومن ثم فإن البطء هنا أساس عملية رسوخ النشيد نفسه فى الذات نفسها من خلال منهجها إزاء الآخر، ذلك الآخر الذى كتب الشاعر من أجله نصه الشعرى، حتى وإن كان الآخر هو الذات الشاعرة نفسها، صحيح أن "مقلد" اعتمد على عملية البنية المركبة فى صياغة المشاهد الشعرية داخل القصيدة الأولى التى جاءت بعنوان "ما فعل الجنرال"، فإنه قدم مزجا شعريا سينمائيا بين المشاهد بعضها ببعض، حيث يقول :
"وجه النهر
الهادئ
البارد
طلب منى قبلة "رسالة انتحار" الشاعر الأمريكى لا نغستون هيوز
بل يوشك الجنرال أن يبكيه فعل الوقت
لا أتحمل البرد الشديد
ولا الرطوبة والعواصف
خاننى التوفيقُ
لو عاد الزمان فربما سأكون أعقلَ.

يتبدى من خلال المشهد الأول التلاقح النصى بين الشاعر الأمريكى لانغستون هيوز، وعبدالرحمن مقلد، وتكمن العلاقة التناصية هنا فى أن "مقلد" يرصد حالة مشهدية لحياة النهر من خلال حس أسطورى باهت الملامح، لأننا لا نعرف حقيقة النهر من حقيقة الإنسان نفسه، يتحد هذا المشهد بمشهد الجنرال الذى خارت آماله وخابت قواه أمام لحظات اتخاذ القرارات الخاطئة التى جعلت الذات فى حالة من حالات الندم الشديد الذى سيطر على نظرتها للحياة المعيشة، ونلاحظ ذلك جليا فى المشهد الثانى، الذى تقف فيه الذات موقف الراوى:
يجلس الجنرال فى المقهى
وحيدا
ممسكا فى راحتيه الشاى
رائحة القرنفل وحدها
تبقيه حيا

ارتكز المشهد الثانى على تقنية سينمائية أخرى، وهى الرمز السينمائى الإشارى الذى ارتكز فى مفردة واحدة، وهى القرنفل، لأن القرنفل رمز الحياة الخالدة ذات الذكرى الفواحة، داخل روح الذات الشاعرة نفسها، كما أن المشهد الشعرى نفسه يتماثل مماثلة رائعة للمشهد السينمائى الذى يعتمد على الحركة من خلال استخدام الفعل المضارع يجلس، والحال وحيدا، ممسكا، وتكمن بلاغة المشهد الشعرى السينمائى فى رائحة القرنفل التى تكون سببا فى حياة الجنرال، ونلاحظ أيضا فى المشهد الثالث صورة هذا الجنرال الرمز الذى اعتمد عليه "مقلد" فى تصوير حياة الإنسان الذى ضاع وقته وعمره هباء لم يفعل شيئا نافعا فيه، فيقول الشاعر ساخرا من نفسه ومن البقاء:

خسرتُ ما ربحت يداى
.. ربحت ما خسرت يداى

يبدو المشهد متحدا مع المشاهد السابقة، من خلال عملية الإيقاع السينمائى البطىء داخل حركة الكاميرا التى تمنحنا رؤية خالية من التشويش الاستعارى المنمق، هذا المجاز الصافى الذى لم تتطرق له البلاغة القديمة، ونلاحظ أيضا أن الشاعر هو الراوى الحقيقى لهذه المشاهد من خلال اللعب بالضمائر الشخصية المختلفة داخل المشهد، وتجلى ذلك فى استخدام أفعال مثل (خسرتُ، ربحتْ، ربحتُ، خسرتْ) ومن ثم يستطيع المتلقى أن ينتقل من مشهد لمشهد شعرى آخر عن طريق البعد الدلالى الخلفى الذى يكمن وراء النص نفسه، وقد تحقق ذلك جليا فى بعض المشاهد مثل:
يظل يسمع للضجيج
لكى يصالح نفسه
يا نفس لم نقصد
سوى أن نستريح وأن نريح
وما فعلنا كان يُفعلُ وحده

تتوالى حركة السرد تباعا داخل المشهد من خلال تركيز الكاميرا على شخصية البطل النصى (الجنرال)، ومن ثم يتكون فى وعينا ذلك التداخل الحوارى بين شخصية الراوى الشعرى، والمروى عنه الجنرال وبين حديث الذات عن نفسها من خلال الجنرال، وملاحظ بلاغة الندم التى تعيشها الذات الشاعرة من خلال فعل الوقت نفسه الذى يفعل كل شىء، وكأن الذات مرغمة على أفعالها السابقة التى فعلها الزمن رغما عنها، ولكن الذات كانت ذاتاً ضعيفة أمام فعل الزمن الشعرى الذى طوح بها فى عالم لا يبقى على أحد، صحيح أن بلاغة الندم التى تتلبسها شخصية البطل النصى داخل القصيدة تؤكد خداع الذات لنفسها بل تناقضها فى كل شىء، فقد تجلى فى المشهد قبل الأخير حيث يقول:
ما يحزن الجنرال
ما يبقيه أوهن من خيوط العنكبوت
هم الضحايا..
كان يلمح فى عيون نسائهم نظرات حزن
كن يحملن الطعام إلى الحقول
على الأكف صغارهن وهن يملأن الجرار
فلم يكونوا خارجين
وفاسدين لكى يموتوا

"تتكشف الحال فى هذا المشهد الفائت من خلال المبررات الواهية التى تقدمها الشخصية البطل من خلال تركيز العدسة الكلية لزاوية الكاميرا عليها حتى تكون لها القدرة على طرح أسباب حزنها الواهى، ويكمن السبب الرئيس فى عملية الحزن، أولئك الضحايا الذى استشهدوا بغير ذنب فقد راحوا فداء للحرية وللوطن الذى اختمر فيه الفساد وتعفنت فيه بؤر الشر، ومن ثم فقد أدرك ذلك الجنرال فى نهاية عمره أن العمر لا يكفى لحصر أعداد الضحايا الذين لقوا حتفهم على يد الجنرال، وإن كانت مفردة الجنرال تستدعى الموسيقى التصويرية العسكرية التى تقتحم آذان الشهداء وبيوتهم وقلوبهم، وتجلى فى قوله: "لم يعد فى العمر، ما يفنيه فى حصر الضحايا".

ويختم "مقلد" قصيدته بمفارقة تصويرية عندما يستدعى صورة الجنرال وفى اللحظة نفسها يستدعى صورة الحظيرة التى يسكنها الفقراء، لكن الجنرال لم يدرك خديعته إلا فى نهاية الزمن الرخيص الذى بدده فى القتل والسبى والسحل، فيقول عبدالرحمن مقلد:
يعرف الجنرال أنّ الظلم عين الظلم ذلك
يعرف الجنرال أنّ عليه أن يقتصَّ
كى تبقى الحياة على بداهتها
إذن من حظهم من فى الحظيرة
أنه لم يدرك الجنرال خدعته
سوى فى آخر المشوار
حين يظل يجلس ساخراً من نفسه ويقول:
ما فعلت يداى أظن ما فعلت يداى"

يأتى المشهد الشعرى السابق ممتزجا بلغة السينما فى نسيجها المعرفى لا اللغوى البحت المباشر، بل اعتمد على تقنية الحوار المباشر بين الذات والآخر داخل مشهد مباشر وآخر غير مباشر من خلال تقنية المنولوج الداخلى من ناحية والديالوج الخارجى من ناحية أخرى، أعنى الدور الذى قام به الراوى الخفى داخل المشهد ذلك الصوت الذى يمدنا بماهية الجنرال الذى سخر من أفعاله، متهما الزمن الذى قام بالفعل بتنكيل وقتل وسفك لضحايا أبرياء لم يفسدوا فى الأرض كما كان يظن، وعليه فقد تمثل هذه المشاهد مفتاحا جليا لقراءة نصوص الشاعر عبدالرحمن مقلد، بجانب مفاتيح نصية متعددة طرحها النص الشعرى لديه، فهنيئاً لنا بشاعر اخترق بنصه دائرة الوسط الثقافى العربى والمصرى، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.. وشكراً للهيئة التى رجعت لصوابها فى تقديم الكوادر الشعرية الشابة، والاحتكام للجان المختصة التى تجتنب الفوضى والمحاباة والمجاملات الدنيئة فى الإبداع الشعرى والنثرى.




غلاف ديوان نشيد للحفاظ على البطء





مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

مصرية

الف مبروك يا لصوتك يا مقلد

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة