فى ظل الحاجة للمراجعة الجذرية للثقافة المصرية برمتها وإلى مقترحات لتأسيس المشروع الثانى للنهضة، الذى من شأنه أن يحقق ثورة على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتأسيس لفكر جديد، بدوره يقوم بتفكيك بنية المنظومات والعلاقات ويرسخ لقيم وعلاقات أخرى متماسكة عبر حوار اجتماعى حقيقى، صدرت الكثير من الكتب التى تناولت ثورة 25 يناير، إلا أن معظمها قد اكتفى بجانب واحد، ألا وهو تسجيل وتوثيق أحداث الثورة، وصدرت هذه الكتب فور سقوط رأس النظام السابق "محمد حسنى مبارك"، رغم أنها ثورة مرئية بامتياز قد لعبت الميديا ووسائل الإعلام المختلفة دورا أساسياً فى استمرارها ونجاحها فى أيامها الأولى.
ولكن قليلة هى الكتب من نوعية كتاب "ثورات العرب.. خطاب التأسيس" الصادر عن دار العين للدكتور "على مبروك" أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، ذلك الكتاب الذى يدعو لثورة جذرية فى الثقافة المصرية، والذى أهداه "للراحل نصر أبو زيد وشهداء الثورات العربية من قبل ومن بعد"، وعبر خمسة فصول هى: عن سؤال الخطابة ونقل مركز المقاربة، البحث عن حل: من الجيش إلى الجامعة، عن سؤال الواقع ونقل مركز المقاربة من البرّانى إلى الجُوّانى، المشاريع العربية المعرفية المعاصرة فى قبضة الأيديولوجيا، تقليد دولة الحداثة العربية.. أى مفارقة؟، يسبقها استهلال ومفتتح ويعقبها مشهد الختام، حيث ينتقد على مبروك عبر تلك الفصول تصور الحداثة عند العرب فى أنهم أخذوا الجانب الظاهرى "البّرانى" بحسب تعبيره، وأهملوا وفصلوا الجانب النظرى "الجُوّانى" المتمثل فى الرؤية ذات الأفق العقلانى النقدى للعالم، ويثبت أن أسباب إخفاق مشروع الحداثة العربية يرجع إلى الخلل الكامن فى كيفية اشتغال العقل العربى عليها ومقاربته لها، وليس فشل الحداثة فى حد ذاتها، ويؤكد أن نموذج العرب فى ذلك يتجلى فى التجربة الكمالية فى تركيا "كمال الدين أتاتورك"، حيث تم فصل الدين عن الدولة تعسفياً باعتباره سببا منتجاً للحداثة، وليس باعتباره نتيجة طبيعية لها، وأنه حين حدث ذلك فى أوروبا وتحديدا فى فرنسا كان نتيجة لتطور الأفكار والصراع والحراك الاجتماعيين فى نمو هادئ بلور الأفكار وأصبحت عملية الفصل مطلبا ملحاً لكل من الدولة والمجتمع.
ويؤكد على مبروك أن سبيل الخروج من هذه الأزمة التى أنتجها بؤس آلية القراءة لمشروع الحداثة من جانب السياسيين، لأنهم غير معنيين بالبحث فى الأسباب، مما أدى إلى إفقار المفاهيم لأن السياسى معنى بقطف الثمار على عكس المفكر المعنى بتقليب التربة، والحل يكمن فى تجاوز هذه القراءة والتفكيك النقدى لما يؤسس لها فى خطاب التراث وما يعرف بـ"عصر النهضة العربى" وهذا ما يتطلب جهدا وعملا كبيرا من جانب المفكرين والمشتغلين بمسألة التغيير.
وبناء على ذلك نادى مبروك بضرورة الفصل بين دور ما هو سياسى وما هو ثقافى، لأن "السياسى" لا يقبل إلا أن يكون الوعى العام هو وعى قبول وامتثال وليس وعى فهم وتمثُّل واستيعاب كما يقبل "الثقافى أو المثقف.
ويشير إلى الطابع القمعى للحداثة العربية الذى قرأه المعلم يعقوب المصرى قديماً فى مقولته "إن تغييرا- حداثيًا- فى مصر لن يكون قط نتيجة لثورة استحدثها نور العقل أو اختمار الآراء الفلسفية المتصارعة، بل تغيير تجريه قوة قاهرة على قوم وادعين جهلاء" أى أن التغيير كان يحدث دائما بفرضه وغالبا ما يكون ذلك عسكرياً وحدث فى تجربة دولة محمد على وأيضا فى تجربة ثورة 1952.
وتطرق إلى أن تحرر السياسة من الارتهان للخارج يقتضى تحرير الوعى فى الداخل من الامتثال والخضوع لأن النظم القمعية نجحت فى استخدام الخطاب المخادع للجماهير المغيبة والمنادى بالاستقلالية والخصوصية الثقافية فى التصدى لمحاولة فرض الديمقراطية من الخارج، حين رأت البلاد المضارة من الإرهاب أن دول العالم الثالث بها فائض قمع واستبداد وقد اتجهوا من الجهاد المحلى ضد أنظمة الحكم فى الداخل إلى الجهاد "الُمعولم" فى الخارج ضد من يرونهم يرعون أنظمتهم ويرعون الإمبريالية فى العالم.
وينتهى الدكتور على مبروك فى كتابه إلى ضرورة ترسيخ خطاب التأسيس للحداثة العربية الذى يبدأ بقراءة وإدراك الواقع وتجنب التعميم والتلفيق ومعالجة الانقسام الفاجع بين مظهر والجوهر الذى تعيشه الدول العربية وخاصة مصر، وضرورة التحرر ليس برفض الدين أو الحداثة بل بتجاوز "خطاب القوة" الذى استبد بهما والانتقال إلى "خطاب الحق" الذى جرى تغييبه عنهما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة