لقد خلفت لنا ثورة 23 يوليو 1952أنظمة ديكتاتورية تقوم على نظام حكم الفرد الذى دام طيلة 6 عقود من الزمان، ابتداء من حكم مجلس قيادة الثورة ومرورا بالرئيس عبد الناصر والرئيس السادات، وانتهاء بنظام الرئيس المخلوع مبارك، هذه الأنظمة كانت تدعى أنها من أجل الديمقراطية السليمة والعدالة الاجتماعية، وأن لها دورا فى العبور إلى المستقبل، ولكنها كانت ديمقراطية مزيفة وواهنة تخدع الرأى العام المصرى، وتروج بأن مصر تعيش عصر الديمقراطية من خلال استخدام أجهزة الإعلام الحكومى .
لقد قامت ثورة يوليو (انقلاب عسكرى ) لمحاربة الفساد والرشوة وإسقاط النظام الملكى والذى كانوا يدعون أنه نظام فاسد، وإنشاء نظام جمهورى ديمقراطى وقاموا بوضع ما سمى المبادئ الستة لثورة يوليو ومن أهمهما 1- إقامة حياة ديمقراطية سليمة 2- إقامة عدالة اجتماعية، لقد اندلعت ثورة الضباط الأحرار من أجل أهداف نبيلة ولإنشاء دولة ديمقراطية، ولكنها ابتعدت كثيرا عن أهدافها ولم تستطع أن تقيم حياة ديمقراطية للمواطن، والأخطر من ذلك بمجرد أن تسلم مجلس قيادة الثورة مقاليد الحكم بعد إقصاء الملك فاروق قاموا باقتسام السلطة، ونشبت الصراعات السياسية بينهم وكان أهمها الصراع الذى دار بين الرئيس نجيب من ناحية، والرئيس عبد الناصر وأعضاء المجلس من ناحية أخرى، والذى انتهى بإعفاء نجيب من منصبه.
قام مجلس قيادة الثورة باستغلال سلطاتهم فى النظام الجديد لتحقيق مصالحهم الشخصية، ولضمان ذلك عملوا على تثبيت أركان النظام الجمهورى بإنشاء الأجهزة الأمنية وأجهزة الصحافة والإعلام وإنشاء المعتقلات، والتجسس على الشخصيات العامة وقمع أى معارضة للنظام الجمهورى. وسرعان ما تحول إلى نظام ديكتاتورى شمولى حتى وصل إلى ذروته بنظام الحزب الوطنى. وقاموا أيضا بحل الأحزاب السياسية، وقام جمال عبد الناصر فى 4 يوليو عام 1962 بإنشاء الاتحاد العربى الاشتراكى الذى كان يعتبر اكبر مؤسسة سياسية فى عهده وبدايات عهد السادات، ويعتبر التنظيم السياسى الشعبى التى تتحالف فيه قوى الشعب العامل من جميع الطبقات، وعلى رأس هذا التنظيم والمؤسسة السياسية الكبيرة كان يجلس جمال عبد الناصر ويمسك بقبضة الحكم.
كان الاتحاد العربى يتكون من اللجنة التنفيذية العليا واللجنة المركزية العليا للاتحاد العربى الاشتراكى هى التى تتحكم فى مراكز اتخاذ القرار، وعلى الجانب الآخر انشأ عبد الناصر تنظيم سياسى سرى ما يسمى التنظيم الطليعى السرى الذى كان يتكون من 30,000 عضو، كان هدفهم إعداد التقارير السرية وتقديمها إلى القيادة السياسية واللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، بغرض تعبئة الجماهير لمساندة النظام والولاء لعبد الناصر وليس حماية الثورة.
صعد الرئيس السادات إلى السلطة بعد وفاة عبد الناصر، وقد وجد نفسه يجلس على رأس الدولة بشكل صورى، ومراكز القوة فى الاتحاد العربى الاشتراكى آخذت منة صلاحياته كرئيس جمهورية، وهم لا يدينون له بالولاء كما كانوا يفعلون مع عبد الناصر. فنشأت الصراعات السياسية بشكل مخيف بين الرئيس السادات ومراكز القوى إلى أن قضى عليهم فى مايو 1971 وما يعرف بثورة التصحيح، وانتقلت مصر من نظام مراكز القوة إلى نظام السادات، وما بين الانتقال بين هاتين المرحلتين التفت السادات إلى أن الدستور الذى سيجعله يعزز سيطرته على السلطة، وفى نفس الوقت كان يعتقد أنها البداية الحقيقية لإعادة بناء النظم السياسى للدولة وتحديد اختصاصات كل سلطة، و حتى أكون منصفا رغم أن السادات عزز سلطاته كرئيس الجمهورية واجتمعت كل مراكز القوة فى قبضته، إلا أننى اعتقد أنة كان يريد أن يبنى نظام يعتمد على دولة المؤسسات بعد موته، والى تعزيز الاشتراكية الديمقراطية والى التعددية الحزبية .
ولكى تنتقل مصر من نظام سياسى سقط إلى آخر جديد بعد ثورة يناير2011، يجب أولا أن نحدد ما هو شكل النظام وهل هو رئاسى أم برلمانى أم مختلط، وما هى اختصاص كل سلطة من سلطات النظام السياسى، وكيف يمكن أن نصل إلى التوازن والفصل التام بين صلاحيات كل سلطة، حتى لا تنشأ مراكز للقوى والسيطرة مرة أخرى، و حتى لا ننتج نظام سلطوى يقوم على حكم الفرد أو انفراد جماعة معينة بالسلطة.
والخلاصة أن مصر لم يكن لديها نظام رئاسى يعتمد على مؤسسات نزيهة وشرعية و على الفصل بين سلطات المنظومة السياسية، فلم يكن هناك برلمان يمثل الشعب ولا رئيس منتخب، وإنما كان أنظمة ديكتاتورية وحكم افراد كما كان فى العهود والقرون السابقة وقبل انشاء الانظمة الجمهورية، فجمال عبد الناصر شوه الحياة السياسية وألغى الأحزاب، واعتمد على الحزب الأوحد كالاتحاد الاشتراكى والتى افرز مراكز القوى والذين انفردوا بالحكم.
والسادات اطلق العنان لسلطات رئيس الجمهورية واصبحت تطغى على جميع السلطات، ولكنه أعاد التعددية الحزبية مرة أخرى إلا أنه لم يفسد السلطة التشريعية، ومبارك عبث بالدستور لصالح مخطط التوريث وقام بتزوير وافساد السلطة التشريعية، وإضعاف الأحزاب السياسية والمعارضة، ولكن ما النظام الأنسب إلى مصر هل هو الرئاسى أو شبه الرئاسى (النظام المختلط)؟ ولكى نصل إلى إجابة عقلانية يجب ان نعلم ان لكل نظام مميزاته وعيوبه، ولكن من الأنسب للتطبيق فى مصر وبعد تشكيل البرلمان ووضوح الخريطة الحزبية التى يمكن أن يقوم على أساسها نظام مختلط .
ومن وجهة نظرى النظام الرئاسى القادم هو الانسب فى ظل المتغيرات الجديدة، و هو الأكثر ملائمة للوضع المصرى وللأسباب التالية، أولا- لأنه الوحيد الذى يضمن الفصل التام بين السلطة التشريعية التى تمثل الشعب ولا يجوز لنوابها الجمع بين عضوية البرلمان ومنصب الوزارة، والتى لن يستطيع أى رئيس قادم العبث بها لان مصر اصبح لديها مجتمع قوى وجيش وطنى لن يصمتوا طويلا على فساد النظام السياسى، وبين السلطة التنفيذية التى سينتخب رئيسها من خلال انتخابات حرة ونزيه.
وثانيا- لان البرلمان القادم اتجه نحو الاغلبية المطلقة لحزب الحرية والعدالة الذراع السياسى لجماعة الإخوان المسلمين والذى تجاوز كونه حزب سياسى مثله كمثل بقية الاحزاب الى جزء من مؤسسة الإخوان التى يتجاوز أعضاؤها الـــ600,000 عضو (حسب دراسة طرحت مؤخرا) والتى لم تخترق على مدار 80 سنة بسبب الهيكل التنظيمى الضخم وعلى قمه هذا التنظيم والمؤسسة الكبيرة يجلس المرشد العام واعضاء مكتب الإرشاد، فأصبح البرلمان ينقصه التوازن مع الاحزاب المدنية والاحزاب الثورية ،وثالثا- وبمعنى اكثر صراحة المرشد العام سيكون الرئيس الفعلى لمصر رغم انه لا يحكم ولا يظهر فى المشهد السياسى، والرئيس القادم سيكون رئيس صورى، على الرغم من انهم لا يسعون لرئاسة الجمهورية ولكن إلى تشكيل الحكومة وأغلبية مطلقة فى البرلمان، وبذلك سيشكلون مراكز قوى كما حدث فى الأنظمة التى مرت على مصر، وسيطر الاتحاد الاشتراكى والحزب الوطنى بشكل مطلق، وأعضاء البرلمان القادم سترفع ايدهم للموافقة على ما يريده مكتب الارشاد كما كان فى عهد مبارك ( موافقه )وسمعنا واطعنا !، ومن ثم فان الإخوان يمكن أن يفرضوا وصياتهم المطلقة على الشعب المصرى، ويمررون القرارات التى تتماشى مع مصالحهم ومكتب الارشاد ومجلس شورى الجماعة، وهذا يمكن أن تصاحبه درجة عالية من عدم الاستقرار، وإمكانية إحلال نظام سلطوى كما وضحت .
الإخوان المسلمون كفى عليهم أن يكونوا رقيبا وحسيبا وممسكين بقبضة السلطة التشريعية، وعليم ألا يوجهوا الرأى العام إلى النظام شبه الرئاسى (المختلط) والذى سينص علية الدستور، والذى يعطى لهم صلاحيات بتشكيل الحكومة وان يجمعوا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لأن النظام المختلط الذى يريده الإخوان يعتمد على الدمج وعدم الفصل بينهم، والرئيس لا يعتبر هو رئيس السلطة التنفيذية و لا يحاسب سياسيا ولا يعين رئيس وزرائها بل دورة يقتصر على الترشيح لرئيس الحكومة، وبمعنى أكثر وضوحا وبدون تعقيدات الموافقة على تعين رئيس الحكومة تكون من اغلبية البرلمان فلذلك من يشكل الحكومة و يحكم ويمسك بقبضة السلطة التنفيذية هم الاخوان !، ومن يشرع ويراقب ويحكم قبضة السلطة التشريعية هم الاخوان ! فمقاليد الحكم كلها اصبحت الان بيد الاخوان ! .
وفى النهاية الدستور القادم بالتأكيد سيقوم بإعادة النظر فى سلطات رئيس الجمهورية، والتى كانت أشبه بالملكية المطلقة والتى عززها السادات فى دستور 1971، حتى يكون لدينا رئيس قوى ومجلس وزراء ينفذ، و لهم استقلاليتهم كما فى النظام الرئاسى، وبرلمان قوى يشرع ويراقب لا تسعى أغلبيته الى كراسى الوزارة، و حتى لا تطغى السلطة التشريعية (البرلمان) و أغلبيته (جماعة الاخوان) على السلطة التنفيذية، أو تنشأ الصراعات السياسية بينهم، او تصبح مؤسسات الإخوان مضاهية لمؤسسات الدولة الشرعية. واخير هذه ليست دعوة ضد الاخوان كما سيدعى البعض لأن مارثون الانتخابات حسم واصبح امرا واقعا انهم اهم طرف فى المعادلة السياسية فى الفترة القادمة، وإنما كانت دعوة لتصليت الضوء على تجارب الماضى، لفهم الحاضر والواقع الذى نعيشه، لمحاولة التنبؤ بالمستقبل الذى لا نعرفه.د
محمود محمد معوض يكتب: هل كان فى مصر نظام رئاسى أم حكم أفراد؟
الخميس، 12 يناير 2012 03:17 م