الحضارة المصرية القديمة هى التى أقامت المجتمع على طبقات متميزة – طبقة الملوك والأمراء المؤهلين وطبقة رجال الدين الذين يختار منهم الوزراء ويسيرون الدولة، وينقاد لهم الشعب ثم تليها الطبقة العاملة من زارع وصانع ومحارب. الطبقتان الأوليان هما اللذان يسخران الشعب، ويجهدانه ليهيئ لهما الحياة الناعمة الوادعة، ويحقق منازعهما ومعتقداتهما لا تأخذهما به رحمة ولا هوادة.
إنه فى سبيلهما يحيا ومن أجلهما يعيش، ولذا أطلق المؤرخون على العصر الذى يلى عصر بناة الأهرام وهو عصر الفترة الأولى (عصر الإقطاع)، وليس من شك فى أن المجتمع المصرى قد حمل إلى اليوم بعض بذور هذه الحضارة، وأن العادات والتقاليد قد تحدرت إليه حتى أيامنا هذه من العهد الفرعونى الواغل فى الزمن ولا أدل على ذلك من الموازنة بين فلاح اليوم، وفلاح الفراعنة إنهما لا يكادان يختلفان فى طرق الرى والزرع والحصاد والدأب والمثابرة، والصبر الطويل.
وتقديرنا للخلق الكريم كما كان يفعل قدماء المصريين سواء بسواء – فمن حكمهم فى هذا الصدد قول الوزير (بتاح حتب)، طوبى للرجل الذى يجعل الحق رايته، ويسير دائماً فى ظلالها. والمجتمع المصرى قد تأثر بالعرب تأثراً بالغاً فأخذ أكثر سماتهم وعاداتهم وتقاليدهم وشرائعهم، إذ أنه أصهر إليهم، وتعلم لغتهم، وحط الكثيرون رحالهم فيه، ومن هنا لا ندهش أو يتملكنا العجب إذا رأينا فى أهله بعض العصبية أو سمات الحياة القبلية، ترى هذا جلياً فيما ينشر فى الصحف كل يوم من أعمدة الوفيات والزواج، وما نردده على ألسنتنا طويلا من أن هذا (أصيل) وأن الآخر (ابن أسرة) أو (من عائلة) وأن هذا وضيع وذاك (رفيع) وتمسكنا بالتكافؤ فى الزواج إلى اليوم، وما يتملك بعضنا من الانتقام للشرف والعرض، والأخذ بالثأر ومعاملة الحريم من الرجال معاملة قد تجنح إلى الخشونة، والتكثر من الأزواج والبنين. والمجتمع المصرى مجتمع (كريـم)، كما كان الحال مع أجداده العرب القدامى – فهو (كريم) فى وقته يتسامح فيه إلى أبعد حدود التسامح، وإلا فبماذا نفسر كثرة المقاهى فى مصر؟ وكيف نفسر تزاحم الزوار فى مكاتب العمل؟ وكيف نؤول تهالك الشعب على زيارة الحاكمين من غير تقدير لما عليهم من مسئوليات جسام؟ وهو (كريم) فى مطعمه ومشربه، يفتن فى ألوان الطعام فإذا السفرة حافلة، مع قلة روادها ، وإذا طعمت ونلت كفايتك أخذ الداعى أو الصديق فى التشديد عليك والحلف بأغلظ الأيمان لتزيد مما طعمت، فإذا لم تسر فى تياره وتقبل إلحافه برم بك وضاق منك ورماك بعدم الوفاء والتكلف من غير أن يدرى أنك محدود الطاقة، وإذا أكثرت من الطعام مرضت بأنواع من الأدواء التى يعانى منها أغلب المصريين، وهذا الإسراف فى الطعام قد أصابنا بالتخمة ، وأجهد أمعدتنا ومعانا وأكبادنا، وصرنا لا نقوى على الخشونة والصبر فى الأزمات الغذائية، حيث قلة المحصول وكثرة الوارد، فنحن لا نفكر إلا فى طعامنا نمسى ونصبح لندبر الطعام والشراب. والغريب أننا نأكل وجبات الطعام اليومية، ولا نكتفى بها بل نأكل أيضاً بين فتراتها فإذا لم نجد ما نأكله أخذنا نتسلى (باللب والترمس والحلبة والتين الشوكى وكيزان الذرة والمرطبات والمكسرات، من غير ضابط أو رابط وإنه لبلاء وأى بلاء. إننا لا نكاد نعرف الاعتدال أو ما يقرب من الاعتدال. والمجتمع المصرى قد أقامت بينه فى العصر الحديث جاليات أجنبية تنتمى إلى دول الغرب، لها عادتها وتقاليدها وملبسها ومع أن أغلبية المجتمع قد عاش بمعزل عن هذه الجاليات، إلا أن بعضه قد تأثر بها سواء فى طعامه أو ملبسه وفى بعض عاداته وسلوكه. ولعل التأثير الأقوى قد انحدر إلى المجتمع من سفر الكثيرين من الشباب المثقفين إلى أوربا وأمريكا وعيشهم فى المجتمعات هناك، وتطبعهم بالكثير من طباعها ثم نشرهم هذه الطباع وتلك العادات فى المجتمع المصرى. ولا شك أن المدنية الحديثه قد قربت بين الأجناس، وأصبح التواصل سمة العصر الحديث. والمجتمع المصرى لا يعيش فى عزلة عن المجتمعات الأخرى، إذ إن مصر الطريق الموصل بين الشرق والغرب فيمر به أجناس عديده شرقية وغربية، وكل من هذه الأجناس يحمل معه عاداته وسلوكه وثقافته ومنهاجه. وإن السينما والإذاعة كان لهما تأثيرهما العارم الذى أخذ يبدل كثيراً من عاداتنا، ويحمل إلينا بعض عاداتهم، ونخشى كل الخشية إن لم نقاوم هذا السبيل المتدفق أن يجرفنا تياره فإذا نحن نفقد مقوماتنا الأصلية وعادتنا القومية وتقاليدنا الوطيدة. ومن عاداتنا القويمة سجاحة طباعنا، فلا نؤمن بالتعقيد ونكره الالتواء ونميل إلى الصفح والتسامح وبخاصة مع أنفسنا، ومن هنا كانت ثورتنا الأخيرة بيضاء لم ترق فيها دماء حمراء.
والمجتمع المصرى على الرغم مما تعيش فيه من سلالات متباينة ومذاهب متفرقة، وأنماط مختلفة قد صهر الجميع فى بوتقته وطبعهم بطابعه، طابع محبة الخير والتسامح ولين الجانب وحسن المعاشرة.
ماجدة محمد خليـل تكتب: ومن هنا كانت ثورتنا الأخيرة بيضاء
الأربعاء، 11 يناير 2012 11:06 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة