من أكثر أوقات العمر جمالاً هى تلك التى نقضيها خلف أية شرفة، ومن أجمل شرف الدنيا هى تلك التى تطل على الوجود من داخل طائرة، أما النادر فى تلك الحياة هو أن تحوى الطائرة امرأة لا يصحبها أحد، ويبدو أنها جاوزت العشرين منذ قليل، لكن أكثر الأشياء ندرة فى تلك الحياة هو أن أكون مثلها وحدي، وأن يتجاور كرسيها وكرسى، وأول ما رأيتها بدت وكأنها هى! كانت امرأة تحوى آخر الأحلام ومعانى الفرص وتفاصيل العذوبة وشروح البسمة فى وجهها، لكن أعجب ما فى الحياة أن تبادرنى هى الكلام!
- أيجوز أن أجلس أنا بجوار الشرفة؟
طبعاً يجوز! ولو حكمت المسألة لجلست تحت عجل الطائرة! أو داخل محركها! أو حتى داخل خزان الوقود! المهم أن هنالك رحلة ستبدأ الآن وربما دامت العمر كله، لكن الأهم هو ألا يصلها ذرة مما يختلج داخل ذهنى الآن، لأن على المرئ ألا يبدى ما يدور بخلده لأسباب لا يعلمها أحد سوى الذوقيات وأخواتها.. المهم أنى تأملتها فى شىء من القرف وقمت من مكانى مع غض الطرف عن تذكرتى التى تؤكد أنه مكانى وقلت:
- تفضلى!
وكأن هذا الكرسى هو ميراثها الشرعى عن والدها! جلست وأخذت تتحرك وهى ثابتة فى مكانها كالمصاب بالهستيريا من حقيبة سفرها لحقيبة يدها لهاتفها.. وأخيراً للنافذة! ويبدو أن دورى قد انتهى فى تلك المسرحية عند "تفضلى"! ما الذى عساى فاعله الآن؟ أطالع جريدة وأغيب فى صفحاتها وأتجاهل وجودها تماماً كنفس دورى عند الحلاق؟ مستحيل! وكأنه كابوس هذا وليست رحلة! ولكن ما زال هنالك أمل.. طالباً خلت أصابعها من أى نذير شؤم فالأمل موجود!
- هذه الاهتزازات ليست طبيعية! ليست المرة الأولى لى على طائرة! هنالك خلل ما! هنالك خلل!
اهتزازات؟ تصور أنى لم أنتبه مطلقاً! حتى لو انفجرت الطائرة لما انتبهت! لكنها اهتزازات ضئيلة التأثير على كل حال، حاولت أن أطمئنها بأننا لسنا على هذا الارتفاع الذى يستعدى القلق وأن سقوط الطائرة لن يسبب تلك الأضرار الجسيمة... لكنى خفت أن تظننى من مرضى النفس والعقل فأمسكت عن تلك الفكرة.. ثم أنها بادرتنى بالكلام للمرة الثانية! فلتهتز الطائرة أو حتى تحترق! المهم أنها تحدثت! ولكن السكوت عاد ليهيمن على المنطقة.
- هل هى أول مرة لك على متن طائرة؟
لقد أجابت لتوها على سؤالى السخيف ولكن كيف لى أن أبدأ الحديث بعيداً عن السخافات! ولكن يبدو أن الآخر يجيب عن أى شيء.. طالما تركت له المسافة كى يجيب باستفاضة عن نفسه هو.. حدثتنى عن رحلات لبلاد كثيرة كان منها ما لا أعرف اسمه، ومن ضمن الحديث أنها كانت فنانة تشكيلية.. وطالبة فى نفس الوقت.. حياتها مشغولة بتلك الأشياء التى لا أفهمها لأنها غير متعلقة بالمادة أو أنها متعلقة بالروح! المهم أننى لعبت دور المستمع على أكمل وجه! وكذلك لعب السكون دوره! لكن كيف أحصل على رقم هاتفها أثناء الغداء؟ ما رأيك لو قلت " الغداء هنا لذيذ جداً! هل بمقدورى أن أحصل على رقم هاتفك؟" ثم أبتسم بعدها بكل ثقة! وربما ستكون تلك هى آخر مرة سأبتسم فيها! لكنى لا أفضل مواجهة موقف لن أنساه ما بقى لى من عمر.. ولكنى لو صبرت حتى هبوط الطائرة وقلت "كانت فرصة سعيدة جداً! هل بمقدورى الحصول على رقم هاتفك!" هكذا أفضل..
ومر الوقت دون أن أدرى، لكنها الآن على دراية بكل تفاصيلى تقريباً، ولما وصلنا لهذا المكان الذى يعنى النهاية قلت:
- كانت فرصة سعيدة جداً! هل بمقدورى الحصول على رقم هاتفك!
- للأسف لم أحصل على واحد حتى الآن... كما ترى! قد وصلت لتوى!
ماذا لو خططت لتفجير المطار مثلاً! لكن هذه هى الحياة! انتهازية لئيمة! مجموعة فرص ضائعة! كان على التمسك بكرسى لآخر لحظة.. لكن أهذا هو جزاء المعروف؟ لكنها لم تكن بفرصة على الإطلاق! الحياة أصلاً:
- لكنى لدى "فيس بوك"!
الحياة أصلاً جميلة! لكن أرجو ألا أجدها على علاقة مع فلان! ويتضح لى فى النهاية أن فلان هذا هو والدى وكل ذلك الجو التراجيدى!
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مريم محمد سعيد يوسف
افتخر أن أكون أول معلق
عدد الردود 0
بواسطة:
Abdellatif Ahmed Fouad
صباح الخير على صفحتى وجريدتى وضياء عينى وشكرا سلامة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد من كوم امبو
من انتم
عدد الردود 0
بواسطة:
سحر الصيدلي
الحياة أصلاً جميلة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد السيد
مقال رائع لكاتب كبير