كأنى نكأت جرحا غائرا، طال عليه الزمن، دون علاج، فتقيح وامتلأ بالصديد، الذى تفوح منه رائحة مؤسفة، عندما كتبت مقالى الماضى، عن الإهمال المخزى لوزير الصحة فى الاستجابة لصرخة أهل «طبيب»، كان بأشد الحاجة إلى العلاج على نفقة الدولة، وانتقل طبيبنا إلى جوار ربه، حيث نرجو ألا نقابل فيما بعد، بعض هذه الوجوه العكرة المتحكمة فى الصحة المصرية بكل الأسف وكل الأسى.
فاضت تعليقات القراء على مقالى، وجُلهم من الأطباء، بصور كثيرة من المرارة، وهى صور مغايرة لما يتصوره عموم الناس، خارج الدائرة الطبية، من أن الأطباء إذ هم يشكلون فئة عالية المقام، يعيشون فى بحبوحة من العيش، يتقاضون من الناس مئات، وآلافاً من الجنيهات، ولأنهم يتحكمون فى أرواح الناس، فلابد أن يرضخ هؤلاء لما يطلبه الأطباء من أجور عالية.
ولأنى كنت قريبا للغاية من الدائرة، عدت إلى أوراقى لأسترجع حكاية الطبيب الذى كتبت عنه، لا على أنها حكاية شخصية فردية، تخص شخصا بعينه، وإلا لما كتبت هذا المقال، وما سبقه، وإنما لأنها مجرد مثال، يشير إلى حالات مشابهة لآلاف من الأطباء، وإن تباينت فى الظروف واختلف التوصيف.
كان على تلميذا قد انتهى من تعليمه الابتدائى أوائل الستينيات، عندما ماتت أمه، الإنسانة الوحيدة التى كانت حريصة على تعليم أبنائها، بينما الأب لم يكن كذلك، فأخذه أخوه الأستاذ الجامعى ليقيم عنده ويتكفل برعايته.
كان صاحبنا الأستاذ الجامعى يرى بنفسه أخاه وهو يصل الليل بالنهار تعلما واجتهادا، متحديا الظروف المحيطة، كما لمس الأستاذ الجامعى كيف تكون مشقة التعلم الطبى، طولا وعرضا وتكلفة، ومحافظة على استمرار التفوق، وكما كبيرا من الآمال العريضة بمستقبل يُعوض ما بُذل من مشاق، أُنفق من مال.
ولما تخرج طبيبنا، تصور أنه سوف يحظى بكذا وكذا من آيات التقدير والعناية والرعاية، باعتبار رحلة الكفاح التى قطعها هو وآلاف أمثاله ممن سلكوا الطريق الطبى، فإذا به يجد بين يديه كل شهر بضع عشرات من الجنيهات لا تسمن ولا تغنى من جوع، خاصة بعد أن تزوج، واستطاع بالكاد أن يعثر على سكن.
تأكد أن ما كان يسمعه عن «العيادات الخاصة»، وما تجره من آلاف الجنيهات هو أمر يخص فقط كبار الأطباء الذين لا يتعدون المئات، بينما الآلاف من الأطباء العاديين، لا يكفيهم ما يتقاضونه شهريا، خاصة إذا تذكرنا ضرورة الحصول على السكن والزواج، وتربية أبناء.
لم يكن أمامه إلا الحل الشهير، الذى يُهرع إليه مئات الألوف من المصريين: السفر إلى خارج مصر، وهو ما ساعده على مجرد الإنفاق على الأبناء وتعليمهم، فعاد إلى مصر.
لكن الأولاد كبروا، وهم أيضا بحاجة إلى سكن وزواج، فإذا به بعد عودته يصل إلى حالة تكاد تضطره إلى أن يمد يده بعد أن تبخر ما جمعه لتعليم الأولاد.
ومن هنا اُضطر إلى العودة مرة أخرى إلى العمل بالخارج، حتى يستطيع أن «يُزَوّج» الأولاد ويعثر لهم على سكن، فعاد ما ادخره إلى التبخر مرة أخرى.
ولظروف متعددة، وقع طبيبنا فريسة عدة أمراض مجتمعة، واحتاج إلى الانتقال السريع إلى مصر، وكان ما بيديه من نقود، لا يكفى أبدا لاستكمال رحلة العلاج على نفقته الخاصة، فتطلع إلى وطنه..ممثلا فى وزير، مفروض أنه «راعى» جموع أطباء مصر، الذين هم يمسكون بأرواح ملايين من المصريين، رعاية وتطبيبا وتمريضا وتصحيحا.
ولم يفتح وزير الصحة الباب لمجرد أن يسمع ما يريده الأهل.. وكان ما كان من انتقال صاحبنا الطبيب إلى جوار ربه، معلنا وضعا مؤسفا، أن يعجز طبيب مكلف بأن يعالج الناس، عن أن يجد من يعالجه، عندما وقع فريسة للمرض الشديد.. ولسان حاله يردد قول من قال: حظى كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحُفاة، يوم ريح: اجمعوه!!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
طبيبة
مقالة معبرة
غلبتنى دموعى تحسرا لحالى وحال زملائى
عدد الردود 0
بواسطة:
salah
حال الاطباء
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى للابد
ليشفى الله مرضى القلوب والنفوس
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى الأكشر
أنسان فى كل وقت وفى كل زمان
عدد الردود 0
بواسطة:
ابودعاء/صيدلى
كلنا ذاك الطبيب
عدد الردود 0
بواسطة:
د.عبد الرحمن نجاح
أقل من الجقيقة