د. عبد الجواد حجاب يكتب: أسود الصحراء

فى يوم من أيام شهر ديسمبر 1993م الشديد البرودة غادرت مصر إلى ليبيا متعاقدا مع وزارة الصحة الليبية للعمل فى أحد مستشفيات الجبل الغربى، واستغرقت الرحلة أكثر من 48 ساعة بالطريق البرى، حيث الحظر الجوى المفروض على ليبيا بسبب ماعرف بقضية لوكيربى، وأضيف إليه حصار البنوك.

مستشفى صغير حوالى 60 سريرا فى مدينة جادو بالجبل الغربى ويعرف أيضا بجبل نفوسة والمستشفى مجهز تجهيز جيد بغرفة عمليات على أعلى مستوى ومعامل للتحاليل وبنك للدم وقسم للأشعة ويعمل بع حوالى 50 طبيبًا وأكثر من 100ممرضة وعدد من الفنيين فى كل التخصصات ووحدة إسعاف بها حوالى عشر سيارات إسعاف.. والعاملين من جنسيات مختلفة أوروبية وآسيوية وأفريقية، ولكن المصريين يمثلون الأغلبية فى الأطباء وأغلبية التمريض بلغاريات ورومانيات وفلبينيات والعنصر الليبى يمثل الأغلبية من الفنيين.. وكان المرضى من كل الجنسيات وأكثرهم ليبيون وعرب.

امتدت مدة عملى إلى سبع سنوات فى هذه المنطقة التى يسكن بها قبائل من الأمازيغ(الجبالية) والعرب.. والقبلية تسيطر على الحالة الاجتماعية حيث القبيلة دولة داخل الدولة لها قوانينها التى هى أقوى من قوانين الدولة ولكل قبيلة عاداتها وتقاليدها ومسجدها ومدافنها الخاصة بها.. وعشنا واندمجنا مع الشعب الليبى وتعرفنا على عاداتهم وتكلمنا بمفردات لغتهم وتعرفنا على اللغة الأمازيغية المحفورة فى رؤوس الأطفال والشيوخ من الأمازيغ برغم عدم اعتراف الدولة بها.

على مستوى البشر الشعب الليبى شعب طيب وكريم وعنده تدين واضح وخاصة فى كل من اجتاز سن الأربعين والشعب الليبى متمسك جدا بعاداته وتقاليده فى المأكل والملبس والمسكن ومن الصعب جدا التخلى عنها بحكم الأوضاع القبلية التى لاتسمح لك بالزواج من قبيلة أخرى وإلا تتبرأ منك قبيلتك إلى يوم الدين.

وزواج العرب من الأمازيغ أو العكس هو أمر مستحيل ويمكن أن تقوم حروب قبلية بسبب هذا الزواج الممنوع.

كلما تسير فى طريق تجد يافطة كبيرة مكتوبا عليها اللجان فى كل مكان ويقصد اللجان الثورية وبالفعل اللجان فى المدرسة وفى المستشفى وفى الجامعة وفى القرية وفى الحى كل مكان يغص بأعضاء اللجان الثورية والأكثرية من الشباب المريض بالثورية وأغلبهم مسلح بالكلاشينكوف، هذا بالإضافة إلى الأمن الداخلى مثل مباحث أمن الدولة عندنا، وأيضًا الأمن الخارجى هذا بالإضافة إلى أن كل الشعب مجند فى الجيش لذلك يسمونه الشعب المسلح ومدة تجنيدهم شهر من كل عام مدى الحياة طالما الصحة تسمح بذلك إلى جوار الضباط والجنود العاملين فى الجيش.

ببساطة الشعب كله يعمل فى الأجهزة الأمنية وما أكثرها ومنها ما نعرفه ومنها مالا نعرفه. فى هذه الشبكة الأمنية الحق عشنا فى أمان وسافرنا فى أمان ونلنا من الاحترام أكثر مما حلمنا به ودخل أولادنا المدارس والحمد لله لم نواجه مشكلة واحدة ذات يوم وخاصة أن الشعب الليبى يكن كل الحب للمصريين وتقابلنا مع مئات الأشخاص ممن تعلموا فى كليات مصر وخاصة العسكرية منها وكانوا دائما يشيدون بتحضر وتقدم المصريين فى كل المجالات.

فى هذه الفترة لاحظت عدة ملحوظات تميزت بها فترة حكم العقيد الليبى.. أولا هذا الحاكم أكد شرعيته بأنه هو من حمل كفنه على يديه وقام بالانقلاب على الملك الرجعى من وجهة نظره مع أن الملكية كانت دستورية فى الواقع، وأيضا قام بتحرير النفط الليبى من الاستعمار وطرد المستعمرين وبذلك أصبح هو المالك الشرعى لهذا النفط ولا يمكن لأحد التحكم فيه إلا هو ومن يفكر بذلك فرأسه هو الثمن.. من هذا المنطلق ملك القذافى كل شىء وتحكم فى كل شىء والويل كل الويل لمن يذكر اسمه أو ينظر إلى صورته.

كل من يفكر فى معارضة الحكم تنصحه قبيلته بالسفر إلى الخارج وإلا الموت نصيبه إما سيقتله أحد أفراد اللجان الثورية أو أحيانا يقتله أهله وقبيلته لتعفى نفسها من العقوبة الجماعية والحصار والإفقار.. حقيقى كان الرجل يقتل ابنه شنقا ليفلت بجلده هو وقبيلته من العقوبة الجماعية التى تكون فى حصار ومنع المواد الغذائية وحرمان من كل شىء ومضايقات أمنية رهيبة التعذيب سيدها والذى كثيرا ماينتهى بالقتل.

الله أعلم وشهيد بحكم عملى فى تخصص الجراحة ناظرت مئات الحالات التى تعانى من إثر التعذيب وعشرات الحالات التى قتلت بالرصاص وعشرات الحالات التى ماتت شنقا (والموت شنقا هو وسيلة الانتحار الوحيدة فى ليبيا، ولكن الشواهد تقول إنه ليس انتحارًا ولا يمكن التفريق طبيا بين من تم شنقه ومن شنق نفسه).

الشباب المعارض والمتدين يطلقون عليهم الكلاب الضالة والكلاب الضالة لها صيادوها من اللجان الثورية لا توجد قوانين بالمعنى الواضح يموت الشاب رميًا بالرصاص ويدفن بدون شهادة وفاة وإن تم عمل شهادة وفاة تكون أسباب الوفاة لا علاقة لها بالسبب الحقيقى للوفاة.

كبت سياسى غير مسبوق وبصراحة أنا كنت أقول إن مصر بالنسبة لليبيا جنة الله فى الأرض فى مصر من يذهب إلى المعتقل يذهب بأوراق رسمية ويعود بعد فترة طالت أو قصرت بأحكام قضائية وقوانين وإن كانت ظالمة وافق عليها برلمان وإن كان مزورا وفى ليبيا من يذهب إلى المعتقل يذهب شفويا ولا يعود مهما طال الزمن أى أنه يذهب وراء الشمس.

فى حادث بسيط جدا فى أحد ملاعب الكرة شغب بين الجماهير بسبب التنافس العادى شباب يقذف بالحجارة تم مواجهتهم بالرصاص وامتلأت أرض المستشفى بالجثث التى خاف أقاربهم للذهاب لاستلامهم.. هذه الجثث تعفنت وأكلها الدود وهى على أرض المستشفى والرائحة تشمها من على بعد كيلومترات ولا أحد يتحرك ولا أحد يتكلم، حيث سيطر الخوف على الجميع خوف شديد وشديد جعل الرجل لا يثق إلا فى نفسه ولا يثق فى زوجته أو ابنه أو أخيه.. شىء مرعب وخوف شديد سيطر على الجميع والخوف هو أهم شىء للسيطرة على الجميع.

وعندما أراد الله الحرية للشعوب وعندما الشعب أراد الحياة واستجاب له القدر تحطم حاجز الخوف الذى يحمى الطاغية وخرج الشباب ومعهم الشعب إلى الشارع خرج الطاغية وسماهم الجرذان وأعطى الأمر بالزحف للقضاء على الجرذان، ولكنه ونحن اكتشفنا أنهم ليسوا بجرذان بل هم أسود الصحراء الذين خرجوا ليحطموا القيود ويحرروا بلادهم من الطغاة والقتلة والمستبدين.. نعم أسود الصحراء الليبية الواسعة خرجت الأسود من كل فج عميق وكلهم إيمان بالحق فى الحرية يضربون مرتزقة كتائب القذافى وأولاده وفى وقت قياسى سيطر الأسود على بيت القذافى وتحول القذافى وأولاده إلى جرذان تختبئ فى حفر تحت الأرض ويطاردهم الأسود.

نعم والله الذى لا إله إلا هو أسود صحراوية تطارد جرذان عائلة القذافى ومرتزقتهم فى شبر من أرض ليبيا وليعلم الجميع أن الخوف كان صناعة الديكتاتور وعندما حطمنا حاجز الخوف كان النصر حليفنا نحن الشعوب المقهورة وليعلم الجميع أن النصر إنما هو من عند الله والحمد الله تحررت ليبيا وألف ألف مبروك للشعب الليبى الأبى المجاهد الحر.