الاستعمار الثقافى هو أبلغ تعبير يمكن أن أصور به الموقف الذى نعيشه الآن، بسب تخبط الأفكار، وضياع الإدراك والوعى، من المعروف أن الثقافة دائماً تمضى بيننا فى يسر وصمت، وهى بين الشعوب تعتبر من الوسائل الأفضل على التغيير وأقربها تأثيراً وأرخصها تعميراً أو تدميراً، وأيضاً يعتبر الاستعمار الثقافى أقوى من العسكرى، لأن أسلحته سهلة فى نقلها وتعاملها، وقبولها على أرض الواقع، لأنها دائماً تملك الأفكار والحيل والنظريات والشبهات، فهى تسحر المشاهد لها ببراعة عرضها، وهو لا يعى أنها أشد خصم له، برغم أنها تقوم مقام السيف فى المعركة.
ومع ذلك فالاستعمار الثقافى ليس بحديث المدلول أو المعنى؛ فوجدت فى قصص الأنبياء والرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – صوراً كثيرة وضحت ما واجهوه من جنس هذه الحروب الفكرية التى قادها لهم شياطين الإنس من تشكيك، واختراع نقائص، وإلصاق تهم، وإثارة جدل، واستهزاء، واستخفاف، ولكنها بدأت الآن ارتداء ثوب جديد فى المعنى قديم فى الأصل، على شكل تيارات متعددة الأساليب، وذلك كله لتغريب المجتمع الإسلامى بطرق المكر والخديعة وتارة أخرى بطرق القهر والإجبار.
بل وصف أيضاً أنه أشمل وأعم صور الغزو، فهى حرب مستمرة بلا ميدان ممتدة إلى ُشعب الحياة الإنسانية جميعاً، كما أنها تسبق السلاح فى أعيرته، وتستمر حتى تنال الفوز فى تحقيق أهدافها، فحينها تسقط إرادة المهزوم حتى يستسلم ويستكين، ولا يهدأ بال المستعمر حتى يرى بعينه فناء الآخر وذوبانه، فيبدأ حينها فى تشكيل أنماط جديدة فى السلوك والأخلاق والأذواق إلى درجة أن يفتخر المهزوم بالتبعية والانقياد، لذلك كثيراً أتساءل منذ متى والضحية تفرح بجزارها؟!!
لقد أدرك الأوربيون بعد فشل حملاتهم الصليبية العسكرية المتكررة فى القضاء على العالم الإسلامى؛ أن تلك الحروب لن تحقق لهم ما يتمنوه فى القضاء على المسلمين؛ لأنهم اكتشفوا أن مصدر القوة فى العقيدة والمنهج، وأن الاعتقاد الصحيح هو الذى يميز المسلمين عن غيرهم فى رفض الخضوع وحرصهم على أن يكونوا نسيجاً منفرداً يقود الأمم ولا يقاد؛ لذلك ذهبوا باحثين على تجديد خطط الاختراق، فى شن محاولات لإضعاف تمسك المسلمين بدينهم بشتى الوسائل، حتى يجردوهم من مصدر القوة، فيضعفوا وحينها تسهل الهزيمة العسكرية.
قال المستشرق جاردنر: "إن القوة التى تكمن فى الإسلام هى التى تخيف أوروبا"؛ فمتى ندرك نحن أن التمسك بإسلامنا هو العزة والفخر؛ وأنه هو الجدار الوحيد الذى يقف فى وجه الاستعمار.
التاريخ هو الدليل على ما أقول؛ من أبسط الأمثلة التى يمكن سردها؛ ما قاله – الحاكم الفرنسى فى الجزائر – فى ذكر الاحتفال بمرور مائة عام على الاحتلال: "أننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرؤون القرآن ويتكلمون بالعربية، فيجب أن نزيل القرآن العربى من وجودهم، ونقتلع اللسان العربى من ألسنتهم"؛ ولهذا عمدوا على طمس اللغة العربية ونشر اللغة الفرنسية.
لذلك لابد وأن نعلم أن الغرب باختلاف مذاهبه اجتمعوا على محاربة الإسلام؛ وقد أيدهم بذلك إشاعة الفرقة بين الدول العربية والإسلامية؛ وأيضا عدم وجود حكام صالحين عادليين يأمرون وينهون بما جاء فى تلك الرسالة العظيمة؛ وأضف إلى ذلك إفساد أنظمة الحكم فى البلاد الإسلامية وامتلائها بالرشوة والفساد حتى انفصلت القاعدة عن القمة، وما زاد الأمر سوءًا هو انسياق الكثير من الكُتاب والزعماء ودعاة الضلال الذين قد تربوا على مائدة الغرب فى ترويج أفكارهم وتحسين صورهم على أنها فى نظرهم أفضل من أن نتراجع إلى الخلف، وأقصد بذلك سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يصطدم حينها العقل فى تقبل الأحكام والواجبات والسنن.
ما أردت من مقالى إلا أن أوجه رسالة إلى جميع من بدلوا وغيروا مراد الله فيهم علمياً وثقافياً وعملياً
أولاً:
إن ظنُّنتم أنّ الدين يجرفُ المجتمعات بعيداً إلى الوراء، ويبث فى النفوس روح الكسل، والالتصاق بالأرض، وأنّ فى الدين تأصيل لنزعةِ الزهد والانعزال والتخلف، إنّ هذا لمن السذاجة بما وجدتموه فى غير دينكم فختلطت أنساب أفكاركم، لأنهم كادوا أن يقتربوا فى دعواهم، من النظرة الشيوعية للدين، بأنه "أفيون الشعوب"، وهذا ما قاله "كارل ماركس" أى أن الدين مخدر ومبلد للشعوب.
إنهم يَعيبون الدين وليس للدين عيبٌ سوى أنهم لم يفهموه كما يجب أن يُفهم، وبسب التقليد وعدم الثقافة والتفقه فى أمور الدين، لذلك صرنا نقبل نصوصاً ونرفض غيرها بسب الهوى، فمازال إلى الآن لا يقبل الحجاب ويوصف بالتخلف والرجعية، وغيرها من الأمور الكثيرة ذات القضايا المثيرة المهمة فى الدين، وضاعت منا عقيدة الولاء لله والبراء مما يبغضه، وذلك كله بسب تصديق شبهات الغرب لأنها كبلت عقولنا لعقود كثيرة، فليس من السهل أن تقلع وتستبدل، إلا بالرضاء الحقيقى والعقيدة الصحيحة والدين الكفيل بإنقاذنا من الجاهلية المعاصرة، وبأن كل ما ورد وجاء ما هو إلا صحيح، وأن ما صلح لأوائل الأمة يصلح أخراها.
ثانياً:
إذا كانت الدعوى أن المجتمع الغربى فى أعلى القمم من الازدهار، فحتماً لابد وأنّه سيكون غداً أسفل سافلين، والأمثلة فى التاريخ الإنسانى على ذلك كثيرة: الاتحاد السوفييتى، ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشستية، أسبانيا، والبرتغال، ذلك لأنّ الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويدمر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
والمجتمع الغربى رغم ما تبدو هيئته ومظهره من الجمال، إلا أنه من الداخل مفكك، ورياحه عفنة خبيثة، لأنه يتآكل مِن كثرة الانحرافات والسلوكيات الأخلاقية الشاذة، فهو مجتمع ظالم للحقيقة البشرية إذ يقول إن أصلنا خلق من قبائح الصور حتى ارتقى إلى قرد ومنها إلى إنسان؟!!
وختاماً أقول إن المجتمع الذى لا يرتضى أن يكون الدين (الإسلام)، منهجاً وشرعاً وطريقاً فى الحياة، هو كمثل مبنى على جرف هار فانهار به فى نار جهنم؛ ولو بعد حين.
إن الإنجاز الحضارى والتقدم العمرانى، ليس غاية فى حد ذاته، بل هو وسيلة لغاية أكبر وأسمى، وهى تجسيد الخلافة على الأرض، والتى ما نزلت التعاليم الدينية والكتب السماوية إلا لتصحح مسيرتها وتوجيهها وضبطها، ولكن إن نحن رفضنا الأخذ بتعاليم الله وتوجيهاته، وكنا كمن قالوا سمعنا وعصينا، فالخسران المبين سيكون مصيرنا فى النهاية لا محالة.
فإلى الإسلام يا عقلاء الناس فإنه الدواء لدائكم، والهداية لكم من ضلالاتكم فأقبلوا عليه عقيدة وحكماً ونظاماً، فإنه ينجيكم ويسعدكم، جربوا فإن التجربة أكبر برهان!!
فبأى شى تحكمون؟ وأنتم بآلاء ربكم تكذبون، إن رضيتم على أنفسكم فما نحن بموافقين، وما دعوانا إلا أن تعودوا وأن لا تكونوا من الهالكين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د. ايمن مرسى
كلامك صح مية فى المية
كلامك صح مية فى المية
تسلم على المقال المتميز
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد منصور
الله اكبر
عدد الردود 0
بواسطة:
نور الشمس
فتح الله عليك
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمدأبوضيف
أستاذ
عدد الردود 0
بواسطة:
على عبد العال ( علي دومه )
الله ينور عليك
عدد الردود 0
بواسطة:
نادية النادى
ماشاء الله
عدد الردود 0
بواسطة:
ايناس العليمي
مقال رائع تسلم يديك
عدد الردود 0
بواسطة:
سناء جاد
هيه ديه الإمبريالية الثقافية
عدد الردود 0
بواسطة:
ناديه حلمى
مخطط الغرب
عدد الردود 0
بواسطة:
hossam elazazy
الجدار