لم يكن حسنى مبارك ليبقى فى الحكم 30 عاما ما لم يجد شعباً مستكينا، ولم تكن الفلول لتحكمنا لو أنها وجدت من يفلها، ولم نكن لنعود إلى براثن الطوارئ لو لم يجدنا الحكام الجدد أشلاءً منقسمة.
عندما نظرت إلى ميدان التحرير فى الأيام الـ18 التى سبقت رحيل مبارك، ووجدته مكتظا بالكثير من الفصائل المتنافرة مضمونا المتضامنة شكلاً، تأكدت أن مصر ستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يؤدى هذا التعدد إلى تجربة ديمقراطية لا شبيه لها فى الوطن العربى والشرق الأوسط، أو إلى ضياع مكتسبات الثورة الواحد تلو الآخر.
ولسبب ما كنت أتوقع حدوث الاحتمال الثانى، فالنظام السابق لم يضيع مصر اقتصاديا بقدر ما نسفها سياسيا وأخلاقيا، فلا ساسة يقودون اندفاع الشباب الثائر ويوجهونه إلى حيث ينفع البلاد، ولا أخلاق تضمن أن يكون الاختلاف وسيلة للنقاش والوصول إلى أفضل صيغة تدار بها مصر، لا معولاً يهدم كل ما بين المختلفين من نقاط اتفاق.
حوّل النظام البوليسى كثيراً من المصريين إلى مخبرين، يلتقى الآخر بأخيه داخل الأتوبيس أو على المقهى أو فى طابور العيش، يفتح معه حوارا فى السياسة والدين والعيشة واللى عايشينها ثم يترقب إجابته، لينتقى منها كلمات بعينها ويقرر بعدها إن كان محدثه خائنا أم كافرا أم جاهلا أم متآمرا، وينهى صاحبنا الحوار معجبا بقدرة عقله على التحليل والتقييم، بعدما يستبعد من ضميره كل ما يدعوه إلى حسن النية فى الناس.
فى الميدان كنت ترى الشيوعى بجوار السلفى خلف الإخوانى على مقربة من الليبرالى. تشهد الأرثوذكسى نسى كل خلافاته المذهبية والتاريخية مع البروتوستانتى ليصبا ماء الوضوء فى كفى مواطن لا يعرف عن البرجوازية شيئا سوى أنها تشكل إلى جانب "فوزية" عنوانا لفيلم. ذابت الانتماءات لأن الهدف كان واحداً، فلما تحقق الهدف ذابت الوحدة وخرج من الميدان المتحد آلاف الشوارع التى لا تلتقى.
الطوارئ نتيجة طبيعية لكل ذلك، وقد اتخذ الثوار بأنفسهم قرار عودتها فى اليوم التالى لرحيل مبارك، عندما اختلفوا أيبقوا فى الميدان حتى تتحقق مطالب الثورة أم يرجعوا إلى بيوتهم ليتركوا الفرصة للمجلس العسكرى ولا يعطلوا عجلة الإنتاج. من اتخذوا قرار البقاء اتهموا من غادر بالضعف لأنه لم يقدر على دفع ضريبة الثورة، ومن قرروا ترك الميدان رموا المعتصمين فيه بالعمالة لجهات أجنبية وأطلقوا عليهم التهم نفسها التى كان يتهمهم بها نظام الرئيس المخلوع.
من بقوا فى التحرير تناقصوا شيئا فشيئا حتى أجهزت على بقيتهم الشرطة العسكرية، ومن عادوا إلى بيوتهم شاهدوا الهراوات وهى تنزل على أدمغة أشقاء الأمس فقالوا: "أحسن يستاهلوا". من وقفوا على الحياد فى البداية بدأوا يكرهون الثورة لأنهم كانوا يشجعونها على أنها مباراة فى كرة القدم، بمجرد انتهائها سيصفقون للفائز ثم يعودون إلى منازلهم سالمين غانمين يمارسون حياتهم وكأن شيئا لم يكن ناسين أساسا من الذى سجل الأهداف.
بعد ذلك جاءت المليونيات لتقضى على ما تبقى من نقاط مشتركة، دخلنا مبارزة جوفاء فى الحشد بين الإسلاميين والليبراليين، كل فصيل يحاول إثبات أنه الأكثر عددا بدلا من أن يبرهن على أنه الأقوى برنامجا وأفكارا، فصارت المليونيات التى أسقطت مبارك تهدد بإسقاط ما تبقى من الثورة. بالإضافة إلى كل ما سبق هناك الفلول التى تتحرك فى الخفاء مراهنة على انتهاء ثورة 25 يناير كـ"هوجة عرابى"، فإذا كانت الثانية التى قامت بغرض نبيل انتهت بجلب الاحتلال الإنجليزى، فالأولى التى قامت بالغرض نفسه ستعيد الاحتلال المباركى، وبدأ هؤلاء فى الاندساس بين الثوار لتوسيع الفجوة التى نشأت بينهم، ونجحوا بمساعدة صادقة من الثوار أنفسهم فى فك الثورة إلى آلاف الائتلافات القزمية التى لا تتكون معظمها إلا من منسق عام وجهاز لاب توب "يسهل" بيانات.
الآن وبعد 8 أشهر من الثورة عاد وزير الإعلام، وعادت الطوارئ، وعادت محاكم أمن الدولة، وعادت الصحف القومية "تطبل" لمن يحكم، وجاء لمقعد رئيس الوزراء عضو بارز بأمانة السياسات، وعاد كثير من قراء هذا المقال ليتركوا كل ما ورد فيه ويمسكون بعنوانه ليختلفون إن كان اقتباس تعبيرات القرآن الكريم حلالا أم حراما.. كل ثورة وأنتم طيبون.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أيمن محمد
اعمل ثورة .. و ارميها البحر
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد شوقى
صدقت كاتبنا الكبير
عدد الردود 0
بواسطة:
كريم القبارى
اتقى الله
عدد الردود 0
بواسطة:
مؤمن - مصر
حذار - حذار
عدد الردود 0
بواسطة:
amr elgamal
مقال مستفز ؟!
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الله
اتقى الله فى كلامك و اياك و التعرض للايات القرانية الشريفة
عدد الردود 0
بواسطة:
تامر أبو عرب
تعقيب من كاتب المقال علي الخلاف حول عنوانه