"أعيدوا لنا الأقصر كما كانت قبل الثورة بيومٍ واحد".. جملة يمكنك أن تسمعها مراراً من أهالى الأقصر فى الأسواق والمقاهى وفى الشوارع، ندمًا على الحال الذى آلت إليه الأوضاع نتيجة الاعتماد فقط على السياحة أو وفق ما يسميها أصحاب البازارات بـ"اقتصاد الشحاتين" وما يدره من دخل غير ثابت، إلا أنهم فى الوقت نفسه يؤكدون لك أن موقفهم من الثورة المصرية وتأييدهم لها يشهد عليهم وأنهم شاركوا وضحوا من أجل كرامة المواطن المصرى، ولكن قبل الثورة كانت الأقصر تسير نحو التقدم من خلال عدة مشروعات توقفت باندلاعها، وكان هناك بارقة أمل يرونها فى أن تتحقق مطالبهم وما يحتاجونه فى كافة المناحى، إلا أن موقفهم من الثورة بات عقابا ينالونه يومًا بعد يوم.
"قبل الثورة لم يكن يمكنك أن تقف وتتحاور معى هكذا".. بهذه الكلمات يصف الحاج "إياد عمر" صاحب بازار آثار بمقر السوق الحضارى بميدان سيدى أبو الحجاج حالة السياحة بعد الثورة، أقول له ولكن بخارج السوق يوجد سياح، ولكن لا يوجد أحد من رجال الأمن، فيقطع سؤالى قبل أن أكمله "لسنا فى حاجة للحكومة لتحمينا، وأمان السائح مسئوليتنا، وقبل الثورة كان رجال الشرطة يتسببون لنا فى متاعب كثيرة، ويتعاملون معنا بشكل غير حضارى أمام السياح، فيهدمون الفرشة أثناء البيع، أما الآن وبعد الثورة لسه بيعملوا فيها أبو على علينا، كل شوية تلاقى واحد منهم داخل عليك المحل أو واقف لك قدام الفرشة وأنت معاك زبون والبيعة حلوة، يقولك: "الشاى بتاعى"، وإلا يعمل معاك أى مشكلة وصوته يعلى فالسائح يسيبك وتبوظ البيعة، أو تديله الشاى علشان بيعة بمائة أو خمسين جنيه، والشاى بتاعهم دلوقتى بقى من عشرة لعشرين جنيه، طيب هانجيب لهم من فين؟، ونعمل إيه تانى بعد الثورة علشان يحلو عنّا، ومهما عملت مين هايرحمنى منه إذا كان رئيسه سايبه علينا؟ ويا كده يا اقعد فى بيتنا".
ويكمل: "بدل ما يتشطروا علينا يروحوا يحموا السياحة من سائقى التاكسيات والحنطور، فهؤلاء لا بد من تأديبهم لأن كل اللى يهمهم "تقليب" السائح فى أى مشوار، وغير كده وجودهم بشكل عشوائى فى الشوارع من بعد الثورة، فقبلها كان لا يمكن لأحدهم أن يعطل المرور أو يمشى ويسيب روث الخيول كان فى نظام حتى للحيوانات، أما دلوقتى هتلاقيهم فى كل مكان أمام المعابد وفى الساحات هاتعرفهم من ريحتهم على بعد، وإحنا كأهالى المنطقة قرفنا من الريحة فما بالك بالسائح؟.
يسمعنا "حمادة محمد" صاحب البازار المقابل للحاج إياد فيقطع حديثنا ويلقى السلام ويقول: يا بيه ياما قولنا خلوا السياحة رقم 20، اقتصاد الشحاتين ده مايشغلش بلد ويأكل أسر، عيالهم يا شغالين فى البازارات بالعمولة أو على المقاهى أو قاعدين والسلام، لحد امتى الحكومة هاتفضل نسيانا؟.
فيضيف "إياد": "إحنا دلوقتى قاعدين بنتفرج على الحكومة، ونفسنا نشوف قرار ثورى واحد، نسمع إنهم هايعملوا مشروعات صناعية فى الأقصر وتشغل الأهالي، إحنا عندنا كوادر حقيقية، الشباب هنا بيتكملوا أكثر من لغة، ومعاهم شهادات، يا بيه هما أربع أو خمس سنوات ولو الحكومة فعلاً لم تهتم بنا وصدرت لنا الطرشة، فالتحرير مش بعيد هنام لهم فيه، الثورة الحقيقية فى طريقها واللى حصل فى يناير كان شرارة الطوفان اللى جاى قرصة ودن بالبلدى.
يكمل: شايف الشاب ده، عمره 23 سنة، وحاصل على دبلوم زراعى، وآخرته بياع فى بازار، بيلقط رزقه بالنسبة، قبل الثورة كان متوسط دخله يوصل لـ250 أو 300 جنيه، دلوقتى لو كمل 50 جنيه تبقى خير ورضى، يا بيه طول ما النيل بيجرى والآثار ربنا كرمنا بيها مش هانموت من الجوع، بس الحال ده ما يريضش ربنا، واليوم اللى بيمشى بالعافية ده هانستحمل لحد إمتى؟، هما خمس سنين وهنام لهم فى التحرير.
نفس العبارة "أعيدوا لنا الأقصر كما كانت قبل الثورة بيومٍ واحد" يمكنك أن تسمعها من المثقفين وهم يروون يوميات "مأساة الثقافة والمثقفين" وأحلامهم التى تنتظر قرارات بسيطة وسهلة، ويتعجبون كيف يمكن لمدينة تعتمد السياحة فيها على الآثار، ولا يوجد فيها دار نشر واحدة، أو منفذ لإصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفرع لقصر من قصور الثقافة وإصداراته، وكيف لا يوجد فيها دور عرض سينمائية أو مسرح؟!.
يقول الشاعر حسين القباحى، أمين عام اتحاد مثقفى الأقصر، ورئيس لجنة العلاقات العربية باتحاد كتاب مصر إنه على المحافظة أن تهتم بالثقافة، وإذا كانت بعض المشروعات التى توقفت بسبب الثورة تحتاج وقتًا لتنفيذها، فإن الثقافة لا تحتاج سوى عدة إجراءات على الأوراق، فلدينا أماكن كثيرة مغلقة فى الأسواق الحضارية التى فتحت، ويتم تأجير بعضها لمحلات من أشباه "دلع الهوانم"، فلماذا لا يتم تخصيص منفذين أو أكثر لهيئة الكتاب وقصور الثقافة، وتخصيص منفذين لكبريات دور النشر الخاصة لنشر إصداراتهم، خاصة أن الأقصر فى حاجة ماسة إلى الكتاب الأجنبى، لتنمية اللغة والوعى بكيفية التعامل مع السائح، كما ستحظى دور النشر بجذب السياح إليها، وتنتعش صناعة الكتاب التى ينادى بها اتحاد الناشرين وأعضاؤه.
ويضيف "القباحى: "يجب ألا يقتصر الاهتمام بالثقافة على مدينة الأقصر فقط، فبالرغم من أنه قريبًا سوف يفتتح قصر ثقافة بهاء طاهر وفرع اتحاد الكتاب بنفس المقر، إلا أنه مراكز المحافظة محرومة تمامًا من الثقافة ومن أى فعل ثقافى، فلا وجود للمكتبات العامة، ولا دور عرض سينما، ولا مسارح ولا قصر ثقافة، أو أى مكان يمكن للأدباء والأطفال أن يتجمعوا فيه ويمارسوا فيه أى فعل ثقافى، فى حين أن هذه المراكز بها رصيد إبداعى وتراث شفاهى كبير جدًا معرض للاندثار، وبمقدور المحافظة أن تخصص الأراضى اللازمة للبناء.
ويتساءل: هل يعقل أن أو يتخيل أن مدينة مثل الأقصر يأتيها الأجانب من كل مكان ولا يوجد بها دور عرض للأفلام تليق بها، وحتى السينما الموجودة حاليًا "ترسو" يستحى أى إنسان أن يقترب منها، لما عرف عن ممارسة الشواذ فيها، هل يعقل هذا؟، وحتى المسرح البسيط الوحيد فى ميدان سيدى أبو الحجاج، تحول إلى موقف للباعة الجائلين وعربات الحنطور، وهناك محاولات لإزالته؛ من الأمن لأنه أصبح منبرًا للثورة، وطالبنا المحافظ بتعيين حراسة دائمة عليه حتى لا يتم تخريبه، وفى نفس الوقت يتم تطويره، ولا حياة لمن تنادى، ودعونا الباحثين والمتخصصين للاهتمام بالأدب الشعبى فى الأقصر، وتراثها الشفهى، ولكن كيف ولا يوجد من يساعدهم على ذلك.
ويروى الكاتب "نوبى عبد الراضى" رئيس مجلس إدارة نادى أدب أرمنت والتابع لهيئة قصور الثقافة، مأساة إغلاق النادى بعد حرق مقر الحزب الوطنى، موضحًا أنهم سبق أن حصلوا على حق الانتفاع بالنادى، لأن مقره تابعًا للإصلاح الزراعى الذى قام بإغلاقه بعد الثورة، وأمسى المثقفون محرومين من تجمعهم فى مكانٍ يمارسون فيه أى نشاط ثقافى، وخاصة فى تلك الآونة التى تشهدها مصر، وتحتاج لمزيد من الوعى بالجمهور، فيتحايلون على الظروف ويجمعون أنفسهم ويلتقون على أحد المقاهى.
ويضيف، ولكن هذا لا يمكن أن يدوم، فالثقافة لها الأسبقية والأهمية فى أن تتصدر المشهد فى الأقصر قبل التنمية الصناعية، ونتوجه من خلال "اليوم السابع" لوزير الثقافة الدكتور عماد أبو غازى ونطالبه بأن يولى اهتمامه بالثقافة فى الأقصر، وأن تكون هناك منافذ لبيع إصدارات الهيئة العامة المصرية للكتاب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، ونطالبه بالتنسيق مع المحافظة ويتم تخصيص قطعة أرض ليتم بناء قصر ثقافة جديد خاص لأدباء الأقصر لا يشاركهم أحد فيه، وحتى يتم ذلك فإننا نطالب بعودة حقنا فى استعادة مقر ثقافة أرمنت بعدما أغلقته مصلحة الإصلاح الزراعى، ونطالب كبريات دور النشر أن يكون لها أفرع فى نواحى الأقصر.
من ناحية أخرى، يتساءل الكاتب أحمد على، عضو اتحاد مثقفى الأقصر، قائلاً: لماذا لا تهتم الحكومة بالمساحات الصحراوية الشاسعة، ويتم زراعتها؟، موضحًا أن الأزمة تكمن فقط فى خطوط الكهرباء، وإذا ما توفرت فسوف يقوم الكثير من أصحاب الأراضى بعمل مشروعات زراعية ستكون دافعًا فى وجود بيئة صناعية تعتمد على الزراعة، ومنها مثلاً كما كان مطروحًا قبل الثورة مشروع مصنع "الصلصة"، ولدينا مشروع زراعة العنب وتصديره للخارج، وخاصة أن الأقصر هى المدينة الوحيدة فى العالم التى ينضج فيها العنب قبل موعده بشهر واحد، وهو ما يتيح فرصة تصديره للخارج وارتفاع أسعاره، ويوجد بعض رجال الأعمال هنا يقومون بذلك، قاموا بشراء مولدات كهربائية ويصدرون العنب للخارج فقط، ويضيف: لو الحكومة فقط أمدتنا بالكهرباء، لأن الآبار موجودة، فسوف يتم توظيف ما لا يقل عن خمسين ألف أيدى عاملة من أبناء الأقصر للعمل فقط فى الزراعة، وأضف إليها المصانع التى ستقوم عليها.
وفى نفس السياق، يقول الكاتب جمال الطاهر، العضو بالاتحاد، هل تعلم أن كل المواد المستهلكة داخل الفنادق مستوردة من خارجها؟، فلماذا لا يوجد مشاريع صناعية تكميلية للسياحة لصناعة الصابون والشامبو والمناديل الورقية، وتتيح هذه المشروعات فرصة للتنمية؟!.
ويضيف الطاهر: أليس من الغريب أيضًا أن كل القيادات فى الأقصر من خارجها، وأن أبنائها أشبه بالعبيد، وصارت أبواب الترقى فى الوظائف العليا مغلقة أمامهم، وخاصة فى مجال السياحة، وأن العاملين لا توجد لديهم عقود أو تأمينات، ويعملون بوظائف هامشية ومعرضون للطرد لأتفه الأسباب، فى حين أن هذه القيادات فى السياحة يأتون بأقاربهم للعمل هنا.
ويقول الكاتب والمحامى أدهم العبودى: هل تتصور أن القطاعات الخاصة فى الأقصر تتعامل مع أى عامل بنظام الاستقالة المسبقة قبل بدء العمل؟، وأن العامل لا بد من توقيعه عليها كمسوغ للعمل، فأى عرف فى العالم يقول بأن المواطن يوقع على موته قبل أن يحيا، مضيفا "لدى الكثير من القضايا محفوظة فى الأدراج لأن العامل وقع على استقالته قبل بدء العمل ولا يمكنه أن أتى له بحقه"، ويختم العبودى قوله "لن تبقى الأقصر مدينة الغرباء كما هو مشاع عنها، ولن يرضى الأهالى بحالهم هذا بعد الثورة التى قامت من أجل كرامة المواطن ولقمة عيشه".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة