مازلت أعيش فى رمضان رغم مرور أيام على انتهائه.. وذلك لأن رمضان هدا العام كان فريداً ولا يجب أن يسقط من ذاكرتنا تفاصيله وأحداثه.
لم يطل علينا رمضان هذا العام دينيا صرفاً أو مُسلسلاتيا مُبهرجا.. كعادته كل عام، إنما أطل بوجه جديد فى خضم أحداث سريعة متلاحقة.. فقد أطل علينا هذه المرة سياسيا متخما بالأحداث صعودا وهبوطا، تظاهرات واشتباكات، مصادمات ومناوشات، بل وأيضا بطولات، وانتهاء بمقال "سيدة قلبى" لعمرو حمزاوى الذى كسر فيه "تابهوات" كثيرة، استمرت لعقود طويلة، لمن يعملون بالسياسة.
كان رمضان 2011 زخِما محملاً بالأحداث، ملأ أيامه الترقب والشغف والمتابعة اليومية لحلقات وقائع الأحداث التى تجرى من حولنا فى كل مكان، بدلا من حلقات المسلسلات.
كان استقباله قبل هلاله بيومين سياسيا صاخبا، حيث جمعة الإرادة الشعبية بقوتها وتعدادها الرهيب وطلتها المهيبة.. فكان إعلانا صريحا بأجواء سياسية رمضانية جديدة تطل علينا.. فهذا القادم المختلف الآتى من بعيد اسمه "رمضان السياسى"، مصطلح جديد يتحسس خطاه بيننا وينظر لنا بعين متفحصة متحسسة طريقها.
وحتى بداية الشهر الكريم جاءت متواكبة مع الأحداث، حيث تبادل الجميع التهانى السياسية على غرار كل عام وأنتم بخير بمناسبة "فلول" شهر شعبان، وقرب بداية شهر رمضان الـ"مبارك".. ويا رب يكون الشهر كله "جمال" و"سرور" ومصر توصل فيه للـ"علاء" وتعيش فى "عز" وتبدأ على "نظيف"، وأنا بأكد على "عزمى" الشديد على ذلك لأحصل على "صفوت" الحسنات، ويجعلنا من "عبيد" الله الصالحين.
بالطبع لا يكون رمضان مصريا إلا بالنكهة المصرية خفيفة الظل والروح والدم فتجد شباب الإنترنت فى بداية الشهر يندهشون: "الله يرحم أيامك يا مبارك كنا بنفطر الساعة خمسة وادينا بنفطر الساعة سبعة".
ثم ما لبث أن هلّ علينا سحوره الأول بأحداث أدمت قلبونا جميعا.. أحداث العريش والكر والفر واختطاف جثة الفلسطينى من مستشفى العريش على يد مسلحين.
وأبى اليوم الأول إلا أن يأخذ نصيبه، حيث شهد هجوما مباغتا من الجيش والشرطة لتفريق المعتصمين فى ميدان التحرير، الذين كانوا قليلى العدد، حيث ذهب معظهم لإفطار أول يوم مع ذويهم، إلا أن المفاجأة غير المتوقعة أسفرت عن نجاحها، حيث تم إخلاء الميدان تماما.. ومن يومها، وحتى جمعة 9 سبتمبر، وقوات الأمن هى من اعتصمت بالميدان.
أما الحدث الأكبر والأبرز على الإطلاق فهو محاكمة الرئيس السابق والذى تصدر المشهد الرمضانى بأكمله فى يوم الشهر الثالث، فمثل هذا الحدث المصيرى، الذى انتظره الجميع، هز وجدان الكثيرين، إلى حد أن كانت الشوارع خالية من المارة - كيوم كسوف الشمس "إياه".. عند التحذير بعدم التعرض للشمس، حيث التف الجميع فى المنازل وفى الأعمال حول الشاشات والإذاعات يتابعون بشغف حدثا لم يصدقوا أنه كان ليحدث أمامهم ويرونه رؤى العين.
كل ذلك جرى فى ظل تكنهات سابقة بعدم حضور مبارك وتغيبه، ولا ينكر أغلب الشعب على نفسه أن شيئا ما جاثما على صدره قد أزيح عنه فقد شفى صدور الكثيرين ممن ألمت بهم ويلات وأوجاع ومآسى وآلام، بعد أن رأوا الرئيس السابق فى قفص الإتهام تُجرى محاكمته.. فى محاكمة يتوسم فيها العدل والشفافية وشفاء الصدور، وينتظر منها الكثير..
ولم ولن تتركنا خفة الدم المصرية، حيث تناولت إنكار الرئيس السابق للتهم المنسوبة إليه وكذا محاموه الأكثر دهاء بين أقرانهم، فقد أطلق شعار: "نخلص من مرتضى سيديهات.. يطلعلنا فريد فلاشات" نسبة للمحامى الداهية فريد الديب الذى قالوا عنه: "إحنا خايفين يجيب للشهداء إعدام".
ولم يخل المشهد العربى من نصيبه فى زحم الأحداث، فما حدث بسوريا من مجازر كان مروعا لدرجة يشيب لها الولدان، من منع صلاة التراويح وقتل الآلاف وما صاحب ذلك من وقفات أمام جامعة الدول العربية بعد الإفطار لعدة أيام.
وكاد رمضان أن يحمل لنا أخبارا سعيدة، إلا أنه عاد وضّن علينا بها مرة أخرى.. حين كاد الثوار الليبيون يفعلونها ويستولوا على طرابلس بعد أن اعتقلوا محمد القذافى نجل العقيد، وتزامن ذلك مع اعترافات دولية وعربية، على استحياء، بالمجلس الانتقالى الليبى.
وحتى الطبيعة أبت ألا تشارك فى هذا الرمضان المختلف، وشهدت تلك الأيام أزمة عاتية لإخواننا فى الصومال مع ما يعانونه من قحط وجوع و وفيات تصل للمئات يوميا.. قامت على إثرها العديد من الجهات بتدشين حملات الإغاثة لمساعدتهم والوقوف بجانبهم، وحتى إعصار أيرين أبى هو الآخر ألا يشترك معنا، حيث اقتلع الأشجار وأغلق الطرقات فى أمريكا، مما دعى الكثيرين للقول بأنه العقاب الآلهى للجبروت والطغيان بل وتعدى الشهر العالمية ليشهد أحداثا خارجية.. حيث شهدت العاصمة الإنجليزية لندن اشتباكات هائلة ومصادمات قوية لعدة أيام على التوالى، ولم تسلم إسرائيل نفسها فاجتاحتها تظاهرات بمئات الآلاف للاحتجاج على الأوضاع.
ثم كانت الضربة الدامية اشتباكات على الحدود وسقوط ضحايا وشهداء ورفع حالة التأهب قى سيناء وإعلانها منطقة غير آمنة، مع عودة تسرب القلق والجزع إلى النفوس.
وما تبع ذلك بالطبع من تظاهرات واشتباكات أمام السفارة والدعوة لجمعة طرد السفير وظهور "سبايدر مان" المصرى "أحمد الشحات" الذى رفع العلم المصرى على السفارة وأنزل علمها الإسرائيلى.. متسلقا المبنى المكون من 22 طابقا، وأخيرا ينصفنا تقرير قوات حفظ السلام، حيث صرح بأن شهداء الحدود اشتبكوا مع وحدة إسرائيلية توغلت فى سيناء متخطية النقطة الحدودية.
ولم تسلم الموعودة غزة وباتت تحت الحصار من جديد، مُستغيثة "قدسنا بك يا صلاح الدين تستصرخك صائحة أنا مهد المسيح".. ومن جديد مجازر جديدة لدرجة دعت فنزويلا لطرد السفير الإسرائيلى احتجاجا على الهجوم.
ولم يخرج الثوار أيضا دون نصيب.. فقد تم استدعاء بعض الناشطين للتحقيق معهم: أسماء محفوظ ومحمد عادل وغيرهم، بالإضافة إلى عقد بعض المحاكمات العسكرية للمقبوض عليهم.
إلا أنه فى خضم ما يحدث من أحداث عصيبة تتجلى دائما روعة الروح المصرية، روح الآلفة والوحدة والمحبة – ربنا يديمها علينا - حينما تستمع لموقف يقشعر له بدنك من أجمل ما يمكن أن تستمتع إليه فى حياتك و أنت على الطريق، إبان أذان المغرب.. لحظة الإفطار، والكل يمد يده بالمشروبات والمأكولات للمارة – مشهد مصرى أصيل دارج ومتداول و الحمد لله فى كل شوارعنا.
تجد شاباً يوزع بلح وعصير على المارة فيجيبه أحدهم شكرا أنا مسيحى.. فيجيبه الشاب يعنى أنا اللى مسلم.. فعلا ربنا يديمها نعمة عليك يا مصر ويحفظها لك.
ولأن المصرى لا يستطع أن يحيا بدون الفكاهة وخفة الظل، فهو يتنفسها هواء ووريدا.. فيعلنها صريحة واضحة على أنه خرج من رمضان هذا العام وقد تعلم أن مصر اختارت الفستان البمبى، وإن "حزلئوم" طلع أخو الكبير أوى، إلا أن رمضان هذا العام- والاعتراف بالحق فضيلة - شهد ظاهرة جديدة نسبيا جيدة نوعيا، حيث انخفضت نسبة متابعة المسلسلات والإقبال عليها وخاصة السفيه منها.
كان رمضان مختلفا مميزا هذا العام بكل المقاييس، فريدا لم تشهده البلاد فى أى فترة من فتراتها، فقد كان رمضان تاريخيا سياسيا ديمقراطيا وطنيا اتحاديا، كان بحق رمضان فريدا، وهذا ليس اسما لأحد الساسة الذى يطلون علينا كل حين على الشاشات حتى حفظنا عن ظهر قلب ملامحهم ومأخذاهم، وإنما توثيقا لواقع فريد ولتاريخ يتشكل بنا ومعنا الآن.
صورة أرشيفية
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Abdellatif Ahmed fouad
عايزين تجديد
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل الاسوانى
شكرا يا فريدة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد احمد
ممتاز يا دكتورة فاطمة
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed
فعلا رمضان جديد فريد متميز حر
عدد الردود 0
بواسطة:
فاطمة عبد الله
شكرا للمرور و الأخوة المتتأريين
عدد الردود 0
بواسطة:
فاطمة عبد الله
الف شكر بارك الله فيكم
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عصام
الحمد لله
عدد الردود 0
بواسطة:
د ميرفت الاباصيرى
شكرا لكى مقال رائع كالعادة
عدد الردود 0
بواسطة:
amr
جزاك الله خيرا يا دكتورة فاطمة
عدد الردود 0
بواسطة:
صفاء الدين -الخيارية المنصورة
حقا رمضان مختلف تماما