بعد ثلاثة وسبعين عاما من الحياة رحل عن عالمنا الكاتب الكبير الروائى خيرى شلبى، فى هدوء تام، مات بعد أن عاش حياة وصفها مرات "بالمروعة" لأنها من وجهة نظره أعطته القدرة على معرفة أنواع المشاعر والناس وأصبحت معرفة ذات مصداقية لأنها وليدة المعاناة والمكابدة، هذا لأنه عاش الحياة بقلبه ولم يخفى مشاعره، وظل يدخر فى ذاكرة الوعى كل ما تأثر به، كما حفظ الوجوه التى لفتت نظره أو أثرت فيه، أما العيون فلها مكان خاص فى ذاكرته، فالعيون بالنسبة إليه تحمل عناوين الشخصيات حيث أنه يتذكر شخصية معينة عندما يتذكر عينيها أولا، فالناس من وجهة نظره تحمل ملامح متشابهة لكن العيون لا يمكن أن تتشابه لأن لها بصمة مثل بصمة الأصابع، فالشخصيات تظل غائمة فى ذهنه بملامح متداخلة حتى يتذكر العين ونظراتها تتضح الملامح بعد ذلك.
اعتقد شلبى أن "قهر الموت" هو الأساس الذى قامت عليه الحضارة المصرية، لذلك تأصلت عادة الندب فى المجتمع المصرى، والتى يصفها شلبى بالموهبة المصرية الخالصة المتصلة، التى جاء أساسها من الحضارة المصرية ، فالمصرى يرى أن ليس معقولا أن يكون الموت نهاية كل شىء ولابد من وجود حياة أخرى بعد الموت، وتصوّر هذه الحياة ورسمها، وحدد من الجدير بها، وكيف يصل إليها، هذا لخوفه من أن يزيل الموت كل هذه الحضارة، لذلك قرر أن يتحدى الموت بالبقاء، فبنى الأهرامات وسجل التواريخ والأحداث والوقائع بالنقوش على جدران المعابد، وخلّد ذكر الموتى فى أناشيد شعبية يسهل حفظها كما خلّد الوقائع الحربية أيضا بالشعر، وهو ما فعله شلبى أيضا فتحدى الفناء بالبقاء، وكتب وترك لنا أعماله حتى يبقى بينا حاضرا.
شلبى حمل فى قلبه وعقله الهموم المصرية الخالصة، وكان دائم التفكير فيها والكتابة عنها بالطبع، وكان أخر ما كتب فى روايته الأخيرة اسطاسية، قضية الفتنة الطائفية التى يرى شلبى أنها قضية دخيلة على المجتمع المصرى فرضها الواقع منذ زمن طويل خاصة بعد ثورة 1919 ونجاح مصر فى أن تكون كتلة واحدة، فقرر الاحتلال الإنجليزى بدأ يدخل فى نسيج العلاقة، ويبث الفرقة بين المسلمين والمسيحيين عملا بنظرية "فرّق تسد" التى يعيش عليها الاحتلال فى كل مكان، وكانوا يسعون بالوقيعة بين الطرفين، ويتسلطون على مشايخ المسلمين المتخلفين ثقافيا الذين تخرجوا من معهد دينى بابتدائى واكتفوا بذلك ولبسوا العمامة والجبة وملابس المشايخ الكبار وأصبح يحق لهم أن يخطبوا فى المساجد ويعظوا الناس، وهو ما يحدث حتى الآن كما يرى شلبى.
كره شلبى حياة المدينة وأحب حياة الريف، وأكد أنه يكون صافيا تماما حينما يكتب عن الريف على عكس عندما يكتب عن المدينة، مهما كان مختلطا بها، فقد ظل شلبى دائما وأبدا الفلاح الذى يكره المدينة لأنها من وجهة نظره مدينة "بزرميط" غير القرية يعرف أصول الناس فيها، فهو يرى أن أهل القرية أصدق، من يحب فيها يحب حبا حقيقيا، كما أن القرية هى أصل الاحترام الحقيقى والقيم العظيمة والمبادئ الأخلاقية، أما المدينة التى يكرهما ويفزع من أضوائها، فقال عنها أنها زائفة وكلما كثرت الأضواء فيها كثرت درجة الغش واللعب بالنفوس، فالمدينة من وجهة نظر شلبى يحرص الناس فيها على بيع شرفها والسقوط فى الخيانة ومستنقع التكسب غير الشرعى والسرقة لأنهم لا يعرفون أصول بعضهم ولذلك هناك مثل شعبى يقول "البلد اللى محدش يعرفك فيها امشى عريان فيها".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة