ذات يوم قال شيمون بيريز ساخرا من قرار الليكود بشأن عدم الموافقة على إنشاء دولة فلسطينية إن موافقة الحكومة على مرجعية قرارى مجلس الأمن 242، 338 تعنى ضمنا الموافقة على إنشاء هذه الدولة، وإلا فكيف ستعود الأراضى المحتلة؟ هل سيتم إعادتها بالفاكس؟!
لم يبعد بيريز عن الحقيقة عندما تساءل عما إذا كانت الأرض المحتلة ستعود بالفاكس، فكل ما تم إنجازه منذ مؤتمر مدريد الشهير لم يزد عن كومة أوراق يمكن بالفعل إرسالها بالفاكس لمن يهمه الأمر، وهكذا يستطيع من يحلم بعودة كامل التراب الفلسطينى أن يحتفظ بخريطة فى حجرة نومه لفلسطين، يطيل التأمل فيها قبل أن يغلبه النعاس، كى يستمتع بالتنزه فى حدائق يافا وشواطئ حيفا طوال الليل فى حلم وردى.. يستطيع العرب أيضا أن يحصلوا على «الوحدة العربية» بالفاكس، فلدى الجامعة العربية أطنان من الورق تكفى للتوزيع على كل مواطن عربى كى يحصل على نسخته الخاصة من تلك الوحدة العنقاء.
ويعلم الله كم هى مؤلمة هذه السخرية، ولكن هل هى بعيدة عن الواقع؟ أليست أولى خطوات العلاج هى التشخيص الصحيح؟ هل لدينا أية أوهام حول تلك الحقيقة المريرة التى تعد سمة سلبية فى الشخصية العربية؟ أظن أن الإجابة عن هذه الأسئلة تؤكد أن هذا الاسترخاء فى مواجهة جميع قضايانا (وليس فقط القضية الفلسطينية) مبعثه أسباب كثيرة، أهمها إغراقنا فى الحلم والخيال وابتعادنا عن الواقع والمنهج العلمى.
وبالطبع لا يمكن القول بأن ذلك جزء من جيناتنا الوراثية، فلم يكن أجدادنا كذلك، ولأنهم لو كانوا كذلك لما نجحوا فى بناء تلك الإمبراطورية العظيمة التى حققت إنجازات فى كل المجالات واستمرت قرونا زاهية فى تاريخ البشرية، ولكن يمكن القطع بأن ما نعانيه هو جزء من حالة ثقافية عامة ساهم فيها علماء ومثقفون وساسة، وتحول فيها الناس إلى كائنات سلبية غير فاعلة ومفعول بها، فالحكم هو أقرب إلى تفويض إلهى، والحكام لا ينطقون عن الهوى، والطاعة مطلقة والخضوع واجب شبه مقدس، والاختلاف فى الرأى هرطقة دينية، فى حين يكون الظلم هو القانون يهرب العدل إلى ساحة الأحلام، وحين يختفى ضوء المعرفة يتوارى الناس فى أوكار الخفافيش.
وإذا كان ذلك محتملا فى أزمنة لم تتهدد فيها الكينونة وظلت فيها بعض ملامح الذات، فإن ذلك يصبح انتحارا فى زمن يتهدد فيه وجود الأمة وهويتها بالخطر وبالتلاشى، وتصبح مواجهة الذات قبل مواجهة الآخر فرض عين على كل إنسان، فقد آن الأوان أن نغسل هذا النوم الطويل عن أهدابنا، وأن نتخلص اليوم قبل غد من أوهام مخدرات الأحلام، فالحرية لن تكون منحة أو منة من أحد، وإنما كفاح ومعاناة وصراع، والأرض لن تعود بتوقيع العدو على مائدة المفاوضات، وإنما ستنتزع منه انتزاعا فى ساحة المعركة، أو إذا اقتنع بأننا تخلينا عن الأحلام الوردية، وبدأنا نبنى فى ضوء النهار قلاعنا وعدتنا وعتادنا ليوم الفصل.. وليس هناك سبيل آخر.
ولابد هنا أن نأكد بأن بديل الحلم ليس الواقعية التى تعنى «الوقوعية»، أى الاستسلام للأمر الواقع واعتبار ذلك براجماتية وعقلانية، فإن صح أن ذلك ليس حلما، فإنه كابوس أطبق على بعض مثقفينا وساروا يبشرون به بين القرى والمدن، ولعل المفاضلة بين الاثنين ترجح كفة الحلم، لأنه لا يتنازل عن الواقع كما نتمناه، بينما براجماتية الوقوعيين تبدأ وتنتهى بالتنازل، فلا حلم ولا واقع، لا حاضر ولا مستقبل، بل قبول بالفتات مع ذل العيش وكرامة العبيد.
إن عدونا لم يكن يحلم وهو يجتمع فى بازل منذ ما يزيد على قرن من الزمان كى يقرر إنشاء الدولة اليهودية، بل كان يعمل ويتعامل مع الواقع بهدف تغيير هذا الواقع لصالح الهدف الذى يسعى إليه، ولم تكن مؤسساته مجرد غرف للنوم استجلابا للأحلام، فقامت الوكالة اليهودية بتنظيم شراء الأرض واستعمارها وتجنيد المهاجرين وإجراء الاتصالات وممارسة مختلف الضغوط، بينما ظلت جامعتنا العربية لما يزيد على نصف قرن فندقا شامخا على ضفاف النيل يمارس فيه العرب أضغاث «الحلم العربى».
وربما سوف يكتب التاريخ فضلا لنتن ياهو وأمثاله، إذا كان لهم أى فضل، بأنهم بغباء شديد قاموا بإحداث صدمة الإفاقة للأمة العربية، ورب ضارة نافعة، إلا إذا أصر العرب على الاستغراق فى النوم والأحلام، فحينذاك سوف يكتب التاريخ عن الصدمة القاتلة التى نقلت العرب من حالة النوم إلى حالة الغيبوبة الدائمة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد الله
نحن فى مفترق الطرق
عدد الردود 0
بواسطة:
صلاح العربي
اليوم السفاره وغدا القدس ان شاء الله
عدد الردود 0
بواسطة:
علاء
التفويض الإلهي