"ألعاب الراعى".. قصة قصيرة لشريف صالح

الأربعاء، 31 أغسطس 2011 10:35 ص
"ألعاب الراعى".. قصة قصيرة لشريف صالح الكاتب شريف صالح

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رأيته بين السحاب.. لونه أسمر مثل الشوكولاتة البنية، وجه كبير، مستدير كأنه يملأ السماء، كان يظهر ويختفى بين سحب زرقاء وبيضاء، يحرك فى الهواء عصاه الخيزران ويبتسم.

عند الجميزة فى الساحة الواسعة خلف بيتنا قابلت فاطمة صاحبتي، وحكيت لها كيف رأيته فى السماء..عجوز أسمر مثل جدى قبل أن يسافر عند ربنا، محنى قليلاً مثله لكنه يرتدى عباءة بيضاء يموّجها الهواء.

سألتنى عن لون عينيه، قلت لها لا أتذكر!
"هذا الراعى الطيب يوزع الهدايا على الفقراء الطيبين فقط"، هكذا أكدت لى فاطمة كأنها تبوح بسر. لكنه لا يحب أن يراه أحد. يخفيها تحت الوسادة، وراء الباب، وفى مرات يعلقها بحبل فى سقف الغرفة. مرة أخفى لها عروسة جميلة جداً وسط جوال العدس، وأمها عثرت عليها بالصدفة.

قلت لفاطمة إننى أيضاً لدى ألعاب كثيرة مثلها، تركها لى الراعى الطيب تحت الوسادة. لكن الحقيقة ليس لدى أى ألعاب سوى "نوسة". عروستى القماش التى يغطيها فستان أحمر ولا أعرف من اشتراها لي!

سألتنى لماذا لم أحاول أن أرى عينيه؟ فقلّبت يدى فى الهواء وقلت لها: لا أعرف!

فى الليل، واربت النافذة دون أن تحس أمى فهى كانت تتأوه من الألم فى الغرفة الجوانية المعتمة. سأراقبه وهو يطرق بيوت الجيران الفقراء أمثالنا، ويضع الهدايا للعيال أمام عتبة الباب ثم يجرى بسرعة فى الظلام قبل أن يلمحه الأشرار. أبقيت عينى مفتوحتين تقاومان النعاس. سأنتظر وأراه وهو يخفى ألعابه. أعلم أنه فى كل مرة يختار مكاناً لا يخطر على بال بشر. فى هذه المرة سأجعل عينى فى عينيه.

رأيته وقد أضاء بجبينه الجبل الغربي. ثم هبط من الجبل ومشى برجليه فوق النهر. كان يرفع طرف عباءته حتى لا يطالها الماء. فكرت أن أنادى عليه لكننى لم أكن أعرف اسمه!

لا أحد فى البيت سوانا، أنا وأمي. ولا يزورنا أحد سوى جدتى أم السعد. تأتى من آخر البلدة على حمارها الأعرج، كل يومين أو ثلاثة. سمعتُ أمى تنادى بصوتها الواهن. طلبتْ منى أن أغلق النافذة ولا أتطلع إلى السماء طويلاً لأن الشمس ستؤلم عيني.

كانت أمى تستلقى على الأريكة الوحيدة التى نمتلكها، بجوارها طاولة بيضاء صغيرة. متسخة بخراء الذباب. وعلى الطاولة علب الأدوية التى كانت تضعها فى كيس أبيض شفاف وتتناولها ثلاث مرات كل يوم. كانت ملفوفة فى ثوب أبيض لا يظهر منها سوى وجهها المصفر. اخترق المرض منذ سنوات جسمها الضخم مثل كرة عجين عملاقة.

واربت النافذة ولم أغلقها تماماً كما قالت. لو أن السحابة الرمادية البطيئة تزحزحت عن مكانها قليلاً، حتما الراعى يختبئ وراءها. لا أريد منه أن يخبئ لى هدية تحت الوسادة مثل فاطمة. فقط أن يعالج أمى من السخونة والسعال وبصق الدم. أليس علاج أمى أسهل من الطيران بين السحاب والمشى فوق الماء؟!

سألتها لماذا لا تطلب من الراعى الطيب أن يعالجها؟! أدارت وجهها إلى الجدار الآخر ولم ترد.

لن يكلفه الأمر سوى أن يمرر يده على جبينها ويتمتم بالآيات. لكن ليس معقولاً أن يدخل من النافذة مثل اللصوص! تركتُ له باب البيت موارباً فى الليل لكنه أيضاً لم يأت.

طبعاً هو لن يظهر حسب مزاجي، ولا كلما احتجت إليه استجاب لي. يظهر فقط وقتما يريد، قد يتنكر فى هيئة راعى غنم أو تاجر أبقار أو يمضى على الطريق مثل شحاذ أعور دون أن ينتبه إليه أحد. صحيح أن الذين يسافرون إلى السماء لا يعودون مرة أخرى لكن ما المانع أن أسأله إذا كان هو نفسه جدي؟!

صالة بيتنا كانت ضيقة جداً مثل ثقب، تنتشر فيها رائحة المرض وأسراب ذباب أسود طنّان. بالكاد تدخلها أشعة الشمس. الراديو فى صندوقه الخشبى فوق رف صغير خلف باب الصالة، وكان عبد الوهاب يغنى رغم الخرفشة "محلاها عيشة الفلاح".

سألت فاطمة: لماذا لم يهبط علينا ويعالج أمي؟! فقالت لي:لا تثق كثيراً فى الذين يطيرون فى السماء!

تركت فاطمة تحت الجميزة وكنتُ غاضباً. فى كل خطوتين أتطلع إلى السماء وأدارى دموعى حتى لا يراها الجيران. الجيران كانوا دائماً يتلصصون علينا، أنا وأمي. وكانت جدتى أم السعد عندما تأتى تشتمهم لكن دون فائدة!

بلدنا كلها صغيرة جداً فى أولها محطة قطار لا تتوقف بها القطارات وفى آخرها ثلاث شجرات موز يسرقها اللصوص حتى قبل أن يَصفر الموز!

ما بين محطة القطار وشجرات الموز يروح ويجيء الشيخ حسن المجنون حافياً.. من أول البلدة إلى آخرها.. يهرش لحيته الشهباء وشعره الطويل مثل شعر الغجر وهو يشتم ويسب الذين سرقوا النحاس.

صعدت وحدى إلى محطة القطار. من على الرصيف كنت أرى البيوت صغيرة وبعيدة، على اليسار بيت الخفير بدر وامرأته شلبية، وكان ابنهما على يلاعب ثلاثة أو أربعة كلاب صغيرة. على اليمين صف من أشجار الجازورين فى وسطه نخلة بلح. وهناك رأيته بعلو النخلة على فرس بيضاء. كان فى التفاتته نحوى حنان لكنه لوى عنق فرسه مسرعاً دون أن يقول لى كلمة.

مضى فى اتجاه آخر، بعيداً عن محطة القطار التى كنت أجلس عليها. كان مثل شبح يقترب يبتعد، يأتى ثم لا يأتى!

لو توقف على ابن بدر وشلبية لحظة واحدة عن ملاعبة الكلاب وبص بعينه ناحية السماء كان شاف طيران الراعى فى السماء وهو فوق فرسه؟ معقول على ابن بدر وشلبية وجدتى أم السعد وفاطمة وكل أهل البلد عميان وأنا وحدى الذى أراه؟!

كانت الشمس حمراء كبيرة وهى تغيب وراء الجبل الغربي. لا أعرف كم مضى من الوقت. جدتى أم السعد ستضربنى على التأخير! حذرتنى من النوم وحدى على ضفة النهر والذهاب إلى محطة القطار. قالت:"من يخرج من داره يقل مقداره".

عصيتها وخرجت.
ظللت واقفاً وحدى على حافة النهر أتأمل دوامات المياه الصغيرة وهى تتلاشى. كان هناك بيض كثير، بيض كبير الحجم يشبه بيض الإوز. وكان يتدحرج من بين عيدان الغاب والتين الشوكى المنتشر هنا وهناك ويثير دوامات صغيرة. بيض كثير جداً يتدحرج بسرعة ويسقط فى النهر.

حكيت لفاطمة فسألتنى إذا كنت رأيت إوزاً على الشاطئ، فقلت:"لا"! فسألتنى ثانية:
ـ لمستَه؟
ـ قصدك البيض؟
ـ آه
ـ لا

حذرتنى من لمسه فى المرة القادمة وقالت: "بيض الثعابين والحيات فقط هو الذى يتدحرج من الجبل إلى النهر". لم أعرف كيف أشرح لها إن البيض تدحرج من الجبل فى اللحظة التى صعد فيها الراعى واختفى وراءه.

أخبرتها أننى سأغادر البلدة غداً، سأذهب إلى المدينة البعيدة فى القطار الأبيض. أقسمت عليها بالختمة الشريفة ألا تخبر جدتى أم السعد. وعلى رصيف المحطة، استلقيت على آخر أريكة خشبية. حاولت ألا أشغل بالى بالراعي. لو كان لديه فرس يطير بها فأنا سأركب القطار إذا أبطأ فى محطتنا دقيقة واحدة.

فى لحظة أن فتحت عينى لمحته يطير فوق شجر الجازورين والشيخ حسن كان خلفه على الفرس. تحاشيت النظر إليه. لا أكرهه لكننى لا أفهمه. ألم يكن من الأفضل بدلاً من أن يتنزه فى السماء هو والشيخ حسن أن يعالج أمى من بصق الدم؟!

أطلق القطار المطلى بلون أبيض صافرة طويلة وهو يدخل المحطة مثيراً زوبعة خفيفة من الغبار. أسرعت نحوه، وعندما أبطأ جداً أمام الرصيف تهيأ لى أننى سمعت صوت جدتى أم السعد خلفى. فتحت نافذة بيتنا المطلة على النهر، كأنها شبح غاضب:

"ارجع يا ابني"
"ارجع يا ابني"
ما الذى سيحدث إذا لم أرجع؟!
فشلت فى ضبط قفزتى مع سرعة القطار الذى تلاشى ضجيجه سريعاً فى الأفق البعيد. استلقيت ببساطة على الأريكة الخشبية ذاتها. كنتُ مستعداً للذهاب معه إلى أعلى الجبل إذا نادى عليّ. لكن لماذا لا يتوقف قليلاً ونتكلم أو حتى أبص فى عينه وأعرف لونها؟!

زوابع وريح تشكلت أمام عينى كأنها فرس. ثم ظهر وسطها ممتطياً صهوة الريح وعباءته تتطاير فى الخلف.. كان رائقاً هادئاً، ملامحه لا تشبه ملامح جدي. فى هذه المرة كنتُ مصمماً أن أقبض على طرف جلبابه قبل أن يغادر. قفزت وراءه، و"نوسة" كانت فى حضني، فسقطتْ من يدي. سحبها الماء الجاري. فى ثوان ظهرت على مسافة بعيدة جداً وسط النهر وكانت مقلوبة على وجهها، فلو نظر الراعى العجوز إليها من السماء لن يعرف أنها عروستى "نوسة".

القطار مرّ ولا أحد يدرى متى سيعود و "نوسة" جرفها النهر!
راح يصعد أعلى الصخور، وكلما أوشكت يدى أن تطول طرف عباءته ذهب بعيداً.. "أمي"

أمى هناك.. رأيتها أعلى الجبل فى ملابسها البيضاء. ومن بعيد قذفت فى وجهى عروستى "نوسة" وهى تشوّح بيدها غاضبة حتى لا أستمر فى الصعود وراء الراعى العجوز.





مشاركة




التعليقات 3

عدد الردود 0

بواسطة:

محمود رضوان

....

عدد الردود 0

بواسطة:

محمد

رائعة

عدد الردود 0

بواسطة:

عبدالله

مفهمتش حاجه

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة