من الواضح أن الرئيس الليبى "معمر القذافى" لم يقبل يوما بأن يكتف بألقابه المعروفة "ملك ملوك أفريقيا"، "قائد ثورة الفاتح" بل آثر أيضا أن يطلق على نفسه الأديب والمفكر، ليصبح هذا لقبا جديدا فى سجل الألقاب التى تفنن القذافى فى إطلاقها على نفسه يوما بعد يوم.
وقد جاء تشبث القذافى بلقب الأديب والمفكر تحديدا، لاعتقاده بأنه يقدم فى أعماله ما يستحق التأمل والتفكر وهذا يتجلى فى كتابه "الكتاب الأخضر" الذى جعله بمثابة الدستور الشعبى الذى يحكم البلاد طوال عهده ولمن خلفه، والذى تصدره بعبارة "ضرورة تحرير الجماهير من القيود ونقلهم إلى الحرية" تلك العبارة التى ضرب بها الآن عرض الحائط بسبب الانتهاكات والأضرار التى يتعرض لها أحفاد عمر المختار يوميا على يد قواته.
فى كتابه الأخضر الذى ألفه عام 1975 ويعد مصدر فخره، يقدم القذافى عصارة بحثه وقراءته فى الحضارة اليونانية والإسلامية والأوروبية الحديثة، ليعكس نظريات فريدة من نوعها يتساءل فيها قائلا: المرأة تجوع وتعطش، كما يجوع الرجل ويعطش. والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت. ولكن لماذا رجل ولماذا امرأة؟"، لماذا لم يُخلق رجال فقط؟ ولماذا لم يُخلق نساء فقط؟ وما الفرق بين الرجال والنساء، أى بين الرجل والمرأة؟ لماذا الخليقة اقتضت خلق رجل وامرأة؟ ويجيب المفكر الليبى "الملهم!!" على تلك الأسئلة فيقول: إن هناك فرقا طبيعيا بين الرجل والمرأة، والدليل عليه وجود رجل وامرأة بالخليقة. وهذا يعنى طبعاً وجود دور لكل واحد منهما يختلف وفقا لاختلاف كل واحد منهما عن الآخر فالمرأة أنثى، والرجل ذكر. والمرأة طبقا لذلك تحيض أو تمرض كل شهر، والرجل لا يحيض، لكونه ذكرا فهو لا يمرض شهريا "بالعادة"!!.
والكتاب مقسم إلى ثلاثة فصول: الأول يتناول مشكلات السلطة فى المجتمع، معتبرا أن أداة الحكم هى المشكلة السياسية الأولى التى تواجه الجماعات البشرية، ويؤكد فيه أن الصراع السياسى الذى يسفر عن فوز مرشح ما بنسبة 51% مثلا من مجموع أصوات الناخبين تكون نتيجته أداة حكم ديكتاتورية ولكن فى ثوب ديمقراطى مزيف، حيث إن 49 % من الناخبين تحكمهم أداة حكم لم ينتخبوها، بل فرضت عليهم، وتلك هى الدكتاتورية.
وفى هذا الفصل يرفض القذافى كل مظاهر الديمقراطية التى يأخذ بها العالم المتقدم، فهو يرى أن المجالس النيابية هى تمثيل خادع للشعب!!، لأنها تقوم أساساً نيابة عن الشعب وهذا الأساس ذاته غير ديمقراطى، لأن الديمقراطية تعنى سلطة الشعب لا سلطة نواب عنه!.
ولم يبخل المفكر أن يتحف العالم برأيه فى الأحزاب السياسية التى رفض إنشائها تماما، واصفا إياها بالدكتاتورية العصرية، وذلك لأن الحزب هو حكم جزء للكل.
ويركز القذافى على نظرية تقوم على أساس سلطة الشعب دون نيابة أو تمثيل، وأولى هذه الأمور المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، ويقسم الشعب إلى مؤتمرات شعبية أساسية يختار كل مؤتمر أمانة له، ومن مجموع أمانات المؤتمرات تتكون مؤتمرات شعبية غير أساسية، بهذا يصبح الشعب هو أداة الحكم وتحل نهائيا معضلة الديمقراطية فى العالم، وبحيث تصبح الديمقراطية ليست هى "رقابة الشعب على الحكومة" وإنما "رقابة الشعب على نفسه"، ويرفض القذافى فى كتابه الأخضر كل الدساتير، لأن الشريعة الطبيعية لأى مجتمع هى العرف أو الدين وليس الدستور، الذى يستند إلى رؤية أدوات الحكم الديكتاتورية السائدة فى العالم.
وفى الفصل الثانى من الكتاب الأخضر يقدم الخبير الاقتصادى حل المشكلات الإقتصادية وعلاقة العامل برب العمل، ويرى أن القاعدة السليمة تكون أن "من ينتج هو الذى يستهلك"، فالأجراء مهما تحسنت أجورهم هم نوع من العبيد، ويقول أيضا إن المعاش حاجة ماسة للإنسان، فلا يجوز أن يكون معاش أى إنسان فى المجتمع أجرة من أى جهة أو صدقة من أحد، فلا أجراء فى المجتمع الاشتراكى بل شركاء، ويرفض القذافى خدم المنازل سواء أكانوا بأجر أم بدونه، لأنهم برأيه إحدى حالات الرقيق، أما الفصل الثالث فيقدم القذافى فيه أطروحات اجتماعية، ويرى أن الأسرة بالنسبة للإنسان الفرد أهم من الدولة، والدولة نظام سياسى واقتصادى اصطناعى وأحياناً عسكرى لا علاقة للإنسانية به، ويختم كتابه بالتأكيد على أن هذا العمل بشير للجماهير بالخلاص النهائى من كل قيود الظلم والاستبداد والاستغلال والهيمنة السياسية والاقتصادية بقصد قيام مجتمع كل الناس، كل الناس فيه أحرار حيث يتساوون فى السلطة والثروة والسلاح لكى تنتصر الحرية الانتصار النهائى والكامل!!.
لم يكتف القذافى فى عالم الفكر والأدب بهذا الكتاب فقط، بل أعقبه بمجموعته القصصية الشهيرة " القرية القرية.. الأرض الأرض.. وانتحار رائد الفضاء" والتى أزهقت فى سبيل نقدها أحبار أقلام عشرات النقاد فى مدحها والثناء عليها باعتبار أن تلك المجموعة التى يعد عنوانها هو الأطول فى تاريخ الأدب هى عملا فنيا "فريد من نوعه"!!.
عن مجموعته القصصية المستوحى من عنوانها عبارته المعروفة "زنجة زنجة، بيت بيت، شبر شبر" التى قالها متوعدا بها ثوار ليبيا كدليل على حبه لاستخدام "التوكيد اللفظى" فى حديثه، قال عنها الأدباء العرب أنها تتميز بنوع من العمق الفكرى وتصور المعاناة الخاصة والعامة وأن نصوص المجموعة رفيعة المستوى عالية القيمة والدلالة وتتميز بالرهافة والشفافية الشعرية.
بعد مجموعته القصصية يأتى كتابه الأخير "تحيا دولة الحقراء" الصادر عن هيئة الكتاب خلال فترة التسعينيات، والذى قال فيه ما أحلى انتصار الحقراء.. وما أعظمه!! ما أجمل فجر الحقراء عندما ينبلج بدون إذن من أحد! ما أروع شمس الحقراء عندما تبهر الدنيا وهى تصعد بلا توقف!! ما أسعدكم أيها الحقراء فى ضحى انتصاركم تحت الشمس الباهرة!. ما أمتع زقزقة العصافير فى فجر ذلك اليوم العظيم!! ما أحلى أغانى تلك الضحى العسجدية!! ما أبهى شمس الحقـراء الذهبية وهى تتضـرم!.. ما أحلى هذا الحلم الخطير.! أن تتحقق الآمال أن تصبح الأمانى حقيقة…! أن يضحى الحلم واقعا أن تكون، للحقراء دولة..! وأن تغنى لكم الحرية أغنيتها الخالدة ..! وأن تعزف الأوتار بلا قيثار وأن تترنم الأناشيد من تلقاء نفسها.! وأن تطير الدواب بأجنحة الفرح وتحلق…! تحلق فوق وجه الهواء العليل، ما أجمل ذلك اليوم.. يوم قيامة الحقراء.. يوم ينفخ فى صور البعث فإذا هم أحياء يتعانقون ويضحكون.
ويصيف: يضحكون حتى البكاء.. بكاء الفرحة.. تسيل الدموع من مآقيهم المجروحة المتورمة من العذاب، من قلة البكاء لأنه ممنوع عليهم أن يعبروا عن مآسيهـم حتى ولو بالبكاء.. كان عليهم أن يستوعبوا الهوان تلو الهوان. وأن يتجـرعوا المرارة تـلو المرارة.. دون أن يكون لهم الحق فى البكاء...! لذلك تراكمت الدمـوع الساخنة بغزارة وغزارة حتى بردت ثم تجمدت فتكلست؟ لذا احمرت أعينهم وتشققت.. لكن فى يوم البعث المشهود لجماهير الحقراء وقيام دولتـهم الحلم تسخن العيون الجامدة.. ويجرى سريعا فى عروقها الدم الذى كان ممنوعا فتسخن وتسخن وإذا بالورم هو كتلة يابسة من ماء العيون.. تلك العيون الشاردة فى ذلك اليوم تنهمر ببكاء الفرح كمطر الشتاء. اغسلوا وجوهكم الحالكة المرهقة بالماء الغالى بماء العيون.. بالدموع الربانية المقدسة. ما أطهر هذا الماء!! ما أقدس هـذا السائل!! ما أسخنه! ما أحره! اركضوا أيها الحقراء إذا قامت دولتكم، اقفزوا.. العبوا بالحبال.. اقطفوا الورد.. واسبحوا فى الهواء الطلق، طيروا بأجنحة الفرح، استحموا بعرقكم الذى يتصبب من أجسامكم من فرط فرحتكم ونشاطكم غير المعهود.. اكتشفوا رشاقة أجسامـكم.. انظروا لبعضكم بعضا، كم هى جميلة..!كم هى رشيقة تلك الأجساد الملونة بالعذاب..! كم ثمينة تلك الأسمال الممزقة والمرتقة…!
ويتابع: والحقراء لا يحاربون ولا يهربون.. فلن يكون لكم خميس ولا تسديس فالمسدسات والغدارات للقتلة والغدارين والجند الفاتحين المعتدين.. والحقراء لا يعتدون.. إنهم مسالمون طيبون.. لا يحتاجون إلى شرطة وحراس.. ولا إلى رواصد وأجراس، تلك أدوات المرتابين.. ووسائل المتهيمنين.. فالحقراء لهم كوامن رائعة ونفيسة بيد أنها حبيسة. فرغائبهم نعيمية فردوسية إذا أتيح لها الانتشار لتضوع الكون عطرا ومسكا.. إن نيات الحقراء شفاء من كل داء.. فلا عدوان فى دولة الحقراء، هذه الروح الشريرة خالية منها أجسادهم الطاهرة.. لا حسد ولا غل ولا طمع ولا جشع فلا حاجة لهم بالشرطة والجند منهم الأمان والسكينة والاطمئنان.. أنتم طاهرون فلا يمسكم عالم الدنس والأرجاس.. وأنتم مجردون من اللبس والأدناس.. أنتم طهارة الخلق والناس.. أيها الحقراء لكم المجد والبقاء، البقاء للأصلح والأجمل والأنفع.. وأنتم أصلح من أى صالح من الآخرين.. وأنتم أجمل من الجمال، لأنكم ملايين وملايين والجمال وحيد وحزين.. وأنتم أنفع ولستم بالنفعيين، فلا تهتموا بما يمترون فان كيدهم فى تضليل.. ولا تقفوا عليهم فمروا على لغوهم كراما مبتسمين.. إذا ورثتم الأرض أيها الحقراء فلن تكون كهذه لأنها الآن أرض المترفين والمتحكمين والدجالين والمنافقين والكذابين، أرض الفساد التى لا تليق إلا بالمفسدين!!.