إبراهيم أصلان

عن «موزار» الصريع فى كل إنسان

الجمعة، 26 أغسطس 2011 04:41 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أنتمى إلى جيل كان الكتاب الورقى، وما زال، الزاد الأساسى فى تكوينه الثقافى والمعرفى. وأنا لا أعرف واحداً من أبناء هذا الجيل لم يسع وراء الكتاب باحثاً على الأرصفة والأسوار ودكاكين الوراقين والمكتبات ولدى الأصدقاء وغير الأصدقاء بل وسرقته أحياناً من دون كلل.

كنا نتبارى فى اكتشافها ولم يكن لدينا من حديث، حين نلتقى، إلا عن الكتب. لهذا اعتبرنا معارض الكتب فى أى بقعة من العالم مجرد أعراس للمعرفة.

كان الكمبيوتر بالنسبة لنا من قبيل الخيال العلمى، لا أكثر، ولا أقل.

والآن نحن نعجب أشد العجب من غياب أى ذكر لهذه المؤلفات الأساسية التى لا تتقادم أبداً والتى جمعناها بأيدينا وأرجلنا، كيف انقطع ذكر هذا الميراث الذى حفظ للبشرية إنسانيتها، وتستغرب إن كانت الأجيال الشابة قد قرأتها، أو بعضها، وفرغت منها، أم أنها لم تسمع بها أصلاً. وسوف يفزعك أن تذكر عنواناً تظنه شائعاً، أمام كاتب وليس قارئ، لتفاجأ أنه لم يسمع به فى أى مناسبة. لكل قاعدة ما يستثنى، طبعاً، لكننى لم أصادف، لسوء الحظ، هذا المستثنى بعد.

وأفكر بأن هذا الأثر الخطر خلفته شبكة المعلومات المتاحة، رغم إمكاناتها الهائلة، فهى تقدم لك وبسرعة بالغة ما تشاء حول أى معلومات سواء عن الكتب أو الكتاب أو المعارف العامة أو الخاصة أو ما ترغب، لكن ما يبقى، أن المعلومات شىء، والمعرفة شىء آخر.

لابد من الكتاب فى أى صورة كان، الكتب الكبيرة التى استقر عليها الضمير العام واتخذتها البشرية سبباً لتقدمها، ومتعتها، وزادها الذى لا غنى عنه.

أقول قولى هذا غير راغب فى إغضاب أحد، خصوصاً من يظنون أن هذه كتب فات أوانها يتقول بها عجوز غير مدرك ما طرأ على الدنيا من تغيرات أصبحت خارج حدود طاقته المنهكة، وهو رأى صحيح على الأرجح، لأننى أكتب هذا الكلام بينما أضمر، بينى وبين نفسى، عدم اهتمامى على الإطلاق بمن يقرأ أو لا يقرأ.

مناسبة هذا الكلام هو المعرض الذى تقيمه هيئة الكتاب بمنطقة فيصل الشعبية. لقد استغربت الفكرة لأن المرة الوحيدة التى ذهبت فيها إلى هناك كانت أثناء بحثى عن سكن قبل استقرارى فى المقطم، ولم ألبث أن وجدتنى محشوراً بعربتى الصغيرة، عندما كانت تعمل، لا أحلم إلا بمغادرتى كما دخلت. ثم إننى علمت أن هناك طريقاً يصل بك إلى المعرض مباشرة.

كانت تجربة مدهشة أن ترى فرحة هذه الحشود من أبناء البلد وهم يجوبون المكان يشترون الكتب رخيصة الثمن بتعطش ويقبلون على الندوات بشغف، بعضهم جاء بثيابه العادية بينما ارتدى الآخرون ما يليق بالمناسبة، وقد اكتست الوجوه بمزيج من البهجة والكبرياء لأن لهم اعتبارهم وأن الثقافة ليست شأناً خاصاً بالآخرين. كنت أتطلع إلى الأطفال ممسكين بأيدى آبائهم أو متشبثين بجلابيب أمهاتهم، وتوقفت عيناى عند وجه معبر لأحد الأطفال وهو يمشى فى جلبابه وصندله، وفكرت أن «فان جوخ» صار كذلك لأنه توفرت له فى طفولته علبة ألوان صغيرة، واستعدت كلمات من الصفحات الأخيرة لرواية «أرض البشر» للفرنسى العظيم «أنطوان دو سانت أكسوبرى» بينما هو يمر بعربات قطار مكتظ بفقراء الناس: «وجلست أمام رجل وزوجته، وكان بينهما طفل حفر لنفسه مكاناً نام فيه.. وبدا لى وجهه فى ضوء المصباح وجهاً رائعاً.. وقلت لنفسى هذا وجه موسيقى.. هذا وجه «موزار» الطفل.. ماذا يصبح هذا الطفل لو حمى ورُعى وثقف؟.. وعدت إلى عربتى: لم يعد هؤلاء الناس يتألمون لحالهم. وليس الإحسان هو ما يعذبنى، فليست المسألة أن نرثى لجرح لا يلتئم.. ما يعذبنى هو «موزار» الصريع فى كل فرد من هؤلاء الناس».





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة