بيقين فإن عبارة الأمن القومى واحدة مما أسرفنا فى استخدامه، وإطلاقه على ما يواجهنا من ملفات وقضايا، أو ما نرغب فى انتهاجه من سياسات عابرة للأحزاب، والقوى، والائتلافات، أعنى ما نعتبره «قوميّا».
وبيقين - كذلك - فإن إسرافنا فى إطلاق «أمن قومى» على ملف تلو آخر، جاء من عجز الجماعة الوطنية، وبالذات من شكل الاستقطاب الحادث بالمجتمع، والذى يتوارى فيه الصالح العام خلف مصالح ضيقة لهذا الطرف أو ذاك، تتحكم فى تبنيه مواقف بعينها.
على أية حال فقد رصدت - مؤخرًا - عددًا من المواقف التى ترتبط بالأمن القومى المصرى، والتى لم تعطها الجماعة الوطنية اهتمامًا لائقًا، فيما انكفأت على مشغولياتها فى توزيع الأنصبة السياسية، وتسجيل بنط هنا، وإحراز هدف هناك.
وأوجز فى التعرض لتلك الملفات منبهًا إلى أن عملية التحول السياسى الكبرى التى تشهدها البلاد بعد ثورة يناير لا ينبغى أن تصرفنا عن قضايا خطيرة ترتبط بمفهوم الأمن القومى المصرى.
أول تلك الملفات هو «الصومال».
ومن نافلة القول الحديث عن أن مفهوم الأمن القومى National – Security تغير فى تعريفه وتوصيفه بحسب ما شهده العالم من تغيرات.
إذًا فإن الأمن القومى لا يتحقق بالحفاظ على حدود الدولة السياسية فحسب، ولكنه يتعلق بتأمين ما يسمى: «مجال الأمن القومى» أى المحيط الإقليمى أو الدولى الذى الذى يحيط ببلد بعيد.
وفى مصر - مثلاً - فإن مجال الأمن القومى هو منابع النيل جنوبًا، وواحة جغبوب غربًا ًوالحجاز شرقًا، وشمال فلسطين شمالاً بشرق.
وكان تأمين مجال الأمن القومى يتم «بالوجود» وبالقوة العسكرية عبر عقود وعهود، ولكنه -الآن - وبالمفهوم الكونى يتم «بالنفوذ»، أى بضمان الهيمنة أو التأثير، أو القدرة على التوجيه فى الدول المحيطة، إما بالتعاون الاقتصادى والتجارى، وإما بالمعونات، وإما بعمليات إغاثة إنسانية، وإما بخلق شبكات مصالح بين السكان المحليين فى تلك البيئات، وبين الدولة التى تريد وقاية مجال أمنها القومى، وفى هذا الإطار كان التواجد المصرى، أو النفوذ بعد ذلك فى مناطق مختلفة من أفريقيا ومساعدة دولها على الاستقلال، «وبالذات تلك المتحكمة فى مياه النيل»، أو «المؤثرة فى أمن البحر الأحمر وبالذات بوابته الجنوبية» عند اليمن أو فى الصومال التى ساعدت مصر مسعاها للاستقلال بكل قوة.
ولما راحت تلك الأيام، وأدى اختلال أولويات السياسة الخارجية المصرية إلى إهمال نفوذ مصر فى أفريقيا، بات واضحًا النتاج الكارثى المؤثر على الأمن القومى للبلد.
اليوم نشبت فى مصر ثورة، وكان من ضمن أهدافها استعدال توجه السياسة الخارجية المصرية، وأبدت قوى تلك الثورة اهتمامًا واضحًا بالرابطة الأفريقية «وإن استخدمت وسائل وتورط رموز وفودها الشعبية فى تصريحات لم تحقق المصالح المصرية كما نهدف ونرغب».
ثم - بمرور الوقت - ومع الإنهاك البالغ الذى سببته تضاغطات السياسة بعد الثورة ولعبة الذراع الحديدية Bras – de – Fer مع مؤسسات الدولة، فإن قدرة الدولة على التلبية السريعة حماية لمصالحها عانت قصورًا فى بنائها آليات التأثير بمجال أمنها القومى.
وضمن هذا كان تخلفنا عن تقديم المساعدات الطبية، الإغاثية للصوماليين، وللنازحين منهم إلى شرق وجنوب كينيا، فيما رأينا المملكة العربية السعودية موجودة هناك، ثم رأينا تركيا يوم الجمعة الماضية حاضرة ومتمثلة فى زيارة رجب طيب أردوغان رئيس وزرائها وعائلته إلى مقديشيو.
هذا تكريس لأدوار لا ننكرها على أصحابها فهم - أيضًا - يهتمون بأمنهم القومى، وبمجالات أمنهم القومى، ولكننا نتحدث عن غياب دورنا فى بقعة حيوية شهدت استثمارًا سياسيّا وأمنيّا ضخمًا لنا طوال نصف قرن مضى.
كل دولة فى المنطقة تبحث لنفسها عن دور طبقًا لطاقاتها البشرية، ولإمكانياتها الزراعية، ولقدراتها الصناعية والعملية والعسكرية، ولكفاياتها الثقافية، وأيضًا لأفكارها التى يمكن أن تصدرها إلى الخارج.
وقد فشلت تركيا فى أن تلعب دورًا فى المجتمع الأوروبى بعدما فشلت فى أن تصير دولة علمانية بالكامل، وبالتالى لم تقبلها أوروبا، ومن ثم فقد تحول اهتمامها بمجال أمنها القومى، شيئًا فشيئًا، من أوروبا إلى الشرق الأوسط، لتقوم بإحياء العثمانية، وتتواجد فى كل مناسبة تحتمل وجودها، ومن ثم اختارت - فى البداية وبعد أكتوبر 1991، أن تلعب دورًا نحو نشأة شرق أوسطية جديدة، ودخلت - كطرف مراقب - فى محادثات السلام العربية /الإسرائيلية، كما أصبحت مراقبًا فى عملية ترتيبات الأمن الإقليمى وضبط التسلح، والملاحظ أن تركيا اختارت هذا الجانب - بالذات لتصبح مراقبًا فيه، ولم تدخل إلى مجال البيئة الإقليمية، ولا الاقتصاد الإقليمى، ولا المياه الإقليمية، ولا مشكلة اللاجئين الإقليمية.
ثم بدأ نطاق الاهتمام التركى يتسع ليشمل كل ما هو إسلامى، سواء فى الحركات الإسلامية الفسلطينية ومواجهاتها مع إسرائيل، أو فى الدول العربية الإسلامية التى شهدت ثورات وتغييرات لنظم الحكم، لا بل وطرحت نفسها أنموذجًا للتغيير سمى «التتريك»، ثم أخيرًا تمدد «النفوذ» التركى إلى كل موقع إسلامى بأفريقيا.
كل ذلك مشروع جدّا لأنقرة، ولكننا نتساءل: لماذا نحن غير موجودين؟!
هل لأن تجاذبات وتضاغطات الثورة وأجنحتها فى مصر، والأحداث التى سببت أضرارًا بالأمن الداخلى «طائفيّا وسياسيّا وجنائيّا» شغلتنا تمامًا؟
إن إجابة هذا السؤال ربما تكون مؤلمة لنا.. وينبغى أن تدفعنا إلى إعادة التفكير فى أولوياتنا.
ونقول ذلك لأن الأمن القومى صار محاطًا باحتمالات التوعك، فيما تمر علينا أخبار وأحداث تؤكد المعنى نفسه، منها - مثلاً -إعلان كل من القاهرة وواشنطن إلغاء مناورات النجم الساطع، لأن الجيش المصرى مشغول بأمور البلد الداخلية.
وعلى أننى لا أدعى المعرفة الفنية بمدى الفائدة التى كانت تعود على مصر من تلك المناورات «تجرى كل عامين وتشارك فيها تسع دول» ولكن استمرارها لسنوات طويلة يؤكد أن قيادات الجيش ترى فيها جهدًا تدريبيّا عملياتيّا يراكم على عمليات الإعداد المتواصلة.. ومن ثم فإن إلغاءها يعنى خسارة أخرى فى مجال الأمن القومى، وأعنى بها فقدان فرصة للتدريب مع طرف متقدم، ووفقًا لمحددات وضعها الجانب المصرى بما يحقق مصالحه.
ولا يتوقف تضرر الأمن القومى عند تلك النقطة، ولكنه يمتد لما هو أخطر، وأعنى به الوضع فى شبه جزيرة سيناء، وذلك التصريح المقلق جدّا لهيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، الذى قالت فيه إن السكوت عن الوضع الأمنى فى سيناء لم يعد ممكنًا!!.. ثم العمليات المتواصلة لعناصر القاعدة، والمجموعات الجهادية فى إيلات عبر الحدود المصرية، وربما أدى إلى مواجهات إسرائيلية مع تلك العناصر استشهد خلالها - من خلال ما يطلق عليه أخطاء فنية - ضباط مصريون، وأصيب جنود بجراح، فيما أكدت النيابة العامة المصرية وقوات حفظ السلام الدولية غير ذلك: وأخيرًا فإن عملية النسر لتطهير شبه جزيرة سيناء من عناصر القاعدة تكشف - باستمرار - عن اتساع دائرة المشتبهين، وبما يشى بمواجهة غير معروفة أبعادها.
خطورة ما يجرى فى سيناء تأتى من أمرين، أحدهما أنه تقاطع مباشر مع الأمن القومى المصرى، واختبار خشن للسيطرة، فى ظل انشغال القوات المسلحة بأحداث فادحة فى الداخل تقوم أطراف عديدة بتصعيدها دون وعى أو مسؤولية.. أما الأمر الثانى فهو أن ما يجرى فى شبه جزيرة سيناء يترافق مع أحداث أخرى فى أطراف البلاد «سواء عبر مؤتمر قبائل البحر الأحمر أو متطلبات النوبيين التى طال أمد إهمالها فى السنوات الماضية، أو قصة جمهورية جرجا وغيرها».
الأطراف تشد نفسها بعيدًا عن البؤرة، «وكأن سيناريو وارن كريستوفر فى مطلع التسعينيات لانقسام دول المنطقة يوشك على التحقق»، والقوة المركزية المتمثلة فى سلطة الجيش تنشغل - اضطراريّا - فى مواجهة نتاجات التصعيد السياسى، بينما قوات الشرطة لم يكتمل وجودها بعد فى الشارع، كما أنها حذرة جدّا فى تطوير مواجهتها للجريمة تحت وطأة الخوف من اتهامها بالإفراط فى استخدام القوة، وتحت ضغط صورتين نمطيتين رسمتا لها، إحداهما وصمتها بالإجرام قبل الثورة، والأخرى سخرت من ضعفها بعد الثورة، وتراجعها أمام المواطنين فى آلية عكسية لما ساد قبل يناير.
عدم إتاحة الفرصة لأجهزة الدولة ومؤسساتها باستعدال أوضاعها، وممارسة واجباتها على نحو كامل، هو أمر يخترق التزامات الأمن القومى، ويختزل مجاله من محيط الوطن، إلى حدوده السياسية، ثم يختصره إلى داخل الحدود فى المركز دون الأطراف.
وتلك خطورة كبرى.. تلك خطورة كبرى!