لا أذكر عدد المرات التى قرأت فيها هذا الكتاب، لكنى أذكر أنه فى كل مرة يشعرنى كأنى أقرأه لأول مرة، وأراه طازجا كأنه مكتوب اليوم، وأراه ذا قيمة بالغة الأهمية، كما أنه يكشف عن العقلية المستنيرة، والزائقة الفنية الفاخرة، التى كتبت «فى ظلال القرآن» وأعنى كتاب سيد قطب «كتب وشخصيات»، الذى صدر عام 1946 م، ويضم دراساته النقدية، التى نشرها فى مجلة الرسالة لقد ظلم هذا الكتاب على شدة أهميته فلم يحظ بالشهرة، التى حظيت بها كتب سيد قطب الأخرى فاحتجبت شخصية الناقد صاحب الأفق الواسع والنظرة الحداثية المتقدمة، التى أعطتنا مذاقا جديدا للأدب، والنقد العربيين، وانفتحت على جميع الفنون مثل القصة والرواية والمسرح والموسيقى والفن التشكيلى، ويتعامل مع هذه الفنون فى نقداته بأريحية تعكس تقديراً واحتراماً كبيرين لهاتيك الفنون.
باحتجاب شخصية الناقد ذى الموازين الدقيقة العادلة والضمير الأدبى النظيف المبرأ من كل شوائب التعصب، والعين الصافية المحبة للجمال بجميع ألوانه ومستوياته والصدر الرحيب، الذى يتقبل جميع الأفكار من جميع التيارات والمذاهب حتى التى لا يؤمن بجدواها، شرط أن يخضعها للتحليل والتقويم ناظراً فيها من جميع الوجوه والزوايا حتى لا يبقى فيها ظل واحد خارج دائرة الضوء بحيث يستطيع القارئ الحكم بجودة الفكرة أو فسولتها حكماً رشيداً حاسماً، باحتجاب هذه الشخصية ترسخت فى أذهان الأجيال الجديدة شخصية الإسلامى المنشود، الرافض لكل هذه الفنون الدنيوية، المناهض للحياة المدنية والساعى إلى محاولة قلب نظام الحكم لصالح الإسلام السياسى المتشدد، تلك التهمة التى دفع حياته ثمناً لها.
كتابه البديع «كتب وشخصيات» يمحو من الأذهان ما يكون قد وقر فيها من تبعات الشخصية الإسلامية المتشددة التى شنق بها، حتى وإن كان قد غير منهجه فى الحياة والفكر وتخلى عن شخصيته القديمة بعد عودته من رحلته إلى أمريكا، التى قيل إنها كانت السبب فى تحوله، فمن يكتب مثل هذه الدراسات النقدية بهذا التمكن من العلم بجماليات الفنون والآداب، وبهذا الرسوخ فى الإيمان بما يكتب، يصعب علينا التصديق بأنه يمكن أن ينسلخ عن هذا الفكر بسهولة، اللهم إلا أن يكون قد تعرض لزلزال مروع صدع بنيانه، وما أظن أن شيئاً من هذا قد حدث، مهما يكون من أمر فإن ما يهمنا الآن هو أن نقرأ هذا الكتاب الخلاق لكى نستفيد منه الكثير والكثير فى فهم حقيقة معنى الفن والأدب فى حياتنا.
هذا الناقد هو أول من بشر بنجيب محفوظ، بل ربما كان أول من تعامل معه بالنقد الجاد: «خان الخليلى»، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقى، و«على هامش السيرة» و«أحلام شهرزاد» و«شجرة البؤس» لطه حسين، و«بيجماليون» و«الرباط المقدس» لتوفيق الحكيم، و«إبراهيم الثانى» للمازنى، وموازنة بين «مجنون ليلى» لشوقى و«العباسية» لعزيز أباظة، و«حليم الأكبر» لعادل كامل، و«بنت الشيطان» لمحمود تيمور، و«همزات الشياطين» لعبدالحميد جودة السحار، و«البيادر» لميخائيل نعيمة، و«سندباد عصرى» لحسين فوزى أى أنه كان أحد أهم قادة النهضة الثقافية المصرية، التى ازدهرت فى الآداب والفنون.
قال عن رواية نجيب إنها: «خطوة حاسمة فى طريقنا إلى أدب قومى واضح السمات متميز المعالم ذى روح مصرية خالصة من الشوائب الأجنبية»، وقال عن رواية مليم الأكبر ذات الموضوع الماركسى إن «المؤلف صاحب طريقة مطبوعة وأسلوب مرسوم، وهذا يقرر وجوده فى عالم بلا جدال»، وقال عن يحيى حقى: «أهذه الموهبة كلها يطرحها الكسل والإهمال ليتنى أملك سوط الجلاد أيها الموهوب الكسول»، وكنت أود أن أعرض لآرائه الثاقبة الجريئة النزيهة فى أحمد شوقى ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم لولا ضيق هذه المساحة، ولكننى أنتهز هذه المناسبة، وأنبه صديقى إبراهيم أصلان إلى ضرورة وأهمية أن ينشر هذا الكتاب ضمن مكتبة الأسرة، ليتعلم منه أبناؤنا كيف تكون المكابدة فى سبيل التغيير الصادق عن مكنون النفس البشرية.
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود
كنز