دولة جنوب السودان الوليدة لن تكون عربية، ربما يصدم البعض من هذا الحديث، لكن هذا هو الواقع الذى يجب أن نتعامل معه، ولا أرى غضاضة فى أن تنتمى جمهورية جنوب السودان الجديدة إلى أفريقيا، فحساب الربح والخسارة والمصالح يؤكد أن الجوار الأفريقى للجنوب أقرب منا بكثير، فلديهم أمن قومى مشترك، حدود ومصالح وثقافة وأشياء كثيرة لا تتوفر فى علاقتنا بالجنوبيين، وعلينا أن نتساءل ما الذى يربطنا بالدولة الجنوبية؟ أهى المصلحة؟ لو كان كذلك نجد أن مياه النيل هى أهم ما يربطنا بجوبا، رغم أن كمية المياه التى تأتى إلينا من الجنوب حوالى 14% والنسبة الباقية من شرق السودان، وإذا كان ما يهمنا فى المقام الأول ألا تنضم الدولة الجنوبية إلى اتفاق "عنتيبى" ودول منابع النيل ضدنا، فهذا أهم ما يربطنا مع دولة الجنوب، لو سألنا أنفسنا فى المقابل ما الذى يربط دولة الجنوب بنا، حيث لا حدود لا لغة لا ثقافة لا ديانة، ربما تكون الإجابة بعض التبادل التجارى والمصالح التى ربما لا تكون استراتيجية للجنوبيين.
أتعجب دائما من أننا نلوم بعض الدول الأفريقية لعلاقتها بتل أبيب، وأعود وأتساءل لماذا نتعشم فى هذه الدول؟! ماذا فعلنا لها حتى نربطها بنا؟ إسرائيل ساعدت ودربت واستثمرت ومنحت، ماذا قدمنا نحن؟ ولماذا نريد أن يكون الولاء لنا؟ لماذا نجرم هذه الدول على علاقتها بإسرائيل؟ فالقضية الفلسطينية قضيتنا نحن، وليست قضيتهم هم، ولذلك يتحتم علينا أن نفيدهم ونقدم لهم ما يجعلهم ينتمون إلينا حتى بعد ذلك نتحدث عن عشم.
الوضع مع جنوب السودان ليس مختلفا، وتخوفاتنا من علاقات بين جوبا وتل أبيب ليست من حقنا، فلابد أن نقدم لهم ما يعوضهم عن هذه الإسرائيل. يجب أن نبدأ من جديد بنظرة مختلفة، نظرة مصالح فى علاقتنا بأفريقيا عموما وجوبا على وجه الخصوص، ويجب أن نعيد النظر فى أن بعض المنح التى نعطيها للجنوبيين للدراسة بجامعاتنا، والتى لا يستفيدون منها لأنهم يتحدثون الإنجليزية ليست كافية، والتبرع ببناء جامعة وبناء بعض المحطات الكهربائية غير كاف على الإطلاق.
لعلنى أذيع سراً بأن دولة الجنوب الجديدة تنوى إلغاء اللغة العربية تماما من قاموسها ودستورها وتعليمها وكل حياتها، وأن الحديث عن انضمام جنوب السودان للجامعة العربية حديث مضحك، لعلنا نجد إشارات من هنا وهناك من قادة جوبا بأنهم سيحافظون على علاقات جيدة مع العرب، وسوف ينضمون للجامعة العربية، ولكننى أفهم هذا الحديث منهم، فهم كانوا فى مرحلة حساسة قبل الانفصال تستوجب منهم الحذر قبل إعلان توجهاتهم الحقيقية، ولا ألومهم فى هذا على الإطلاق، بل ألوم مصر والعالم العربى، فإذا كانت السياسة المصرية القديمة تجاه الجنوب (غير واعية) وهذا تعبير رقيق قصدت استعماله بدلا من تعبير آخر أعنف، فمصر لم تلتفت إلى الجنوب والسودان عموما إلا بعد إقرار حق تقرير المصير فى مشاكوس، وعندما توجهت للتعامل أخذت وقتا طويلا للفهم، مما جعلها تتخيل بأن بعضا من المعونات من هنا وهناك سوف يحقق هذا الانتماء والتجاوب مع جوبا.
دعونا من هذه السياسة التى أخطأت، لابد أن نتحرك فى مسار آخر به تحد حقيقى ومنافسة قوية مع تل أبيب فى المنطقة، فهذه هى الحرب الحقيقية مع إسرائيل، ويجب أن ننتصر فيها. لابد أن ننجح فى استمالة جوبا إلينا، ولا ننتظرها تأتى إلينا فلن تأتى، فما يربطنا بها أكثر مما يربطها بنا، علاقتنا بشمال السودان جيدة وستكون أفضل بكثير بعد الثورة، لابد أن نستعمل هذه العلاقة مع الشمال فى خلق علاقات طبيعية بين الشمال والجنوب، لو نجحنا فى إزالة التوتر بين شمال وجنوب السودان سنساعد فى إقامة دولة مستقرة بالجنوب ودولة مستقرة بالشمال، وأمن قومى مصرى آمن، فالعمود الفقرى للأمن القومى لبلادنا لن يكون آمنا فى وجود دولتين غير مستقرتين فى ظهرنا.
لدينا فرصة كبيرة فى إزالة كل المشاكل بين الشمال والجنوب، ولدينا أكثر من فرصة فى مساعدة الجنوبيين فى بناء دولتهم الجديدة، بما يخلق روحا إيجابية تجاهنا، ومصالح مشتركة من الصعب التخلى عنها، نحتاج أول ما نحتاج إلى أشخاص تفهم التركيبة السودانية فى الشمال والجنوب، لابد أن نفهم أولا السودانيين قبل التعامل معهم، ولذلك نحتاج لمستشاريات إعلامية تمدنا بالمعلومة الصحيحة التى نبنى عليها بشكل صحيح، بعيدا عن معلومات كانت خاطئة فى الماضى، أدت إلى قرارات خاطئة، لابد أن نعيد النظر فى سفاراتنا فى الدولتين، لابد أن نختار سفيرا يفهم جيدا الملف، ومستشارا إعلاميا يفهم السودان وإعلامه.
نهاية حديثى، نهنئ الشعب الجنوبى على دولته الجديدة، ونتمنى له أن تكون دولة فاعلة فى المنطقة، فالجنوب سوف يكون دولة محورية يمكن أن تكون إضافة لأفريقيا كلها، ويمكن أن يكون عكس ذلك، وعلينا أن نقول (جوبا انتظرينا سوف نأتى إليكِ ونعتذر لإهمالنا لك طيلة هذه السنين.. الخرطوم سوف نعيد النظر فى سياستنا معك لتشمل جميع التوجهات دون استثناء).