السيولة هى عنوان المرحلة، تضعنا هذه السيولة فى مواجهة مخاطر عديدة تجتاح خاطر كثير من المصريين.
هناك سيولة فى اتجاهات عدة منها الأمنى، حيث أصبحت القاعدة هى استعمال العنف فى حل أى مشكلة، وزاد الطين بلة توافر قطع السلاح غير المرخص إلى حد مخيف. يبدى الكثير من المصريين سخطهم على استمرار التدنى فى حماية أقسام الشرطة من الاقتحام، ويزيد من سخطهم ما يسمعوه عن تجرؤ البعض أمام فراغ أمنى بسيناء يطال هيبة الدولة وتماسكها إلى المجاهرة برغبته فى إعلان سيناء إمارة إسلامية. هناك سيولة فى القيادة, فالشرعية يتقاسمها حتى الآن الثوار مستندين لثورتهم التى أحدثت التغيير والمجلس العسكرى مستنداً على الأمر الواقع. هناك فراغ مؤسسى فى ظل عدم وجود مجلس تشريعى أو مجالس محلية بالمحافظات. هناك سيولة فى محددات الاتجاه, فنحن لا نعرف شكل دستورنا، وبالتالى لا نعرف شكل الحكم ولا سلطات الحاكم الذى سنستقر عليه. لا نعرف كيف ستجرى فى النهاية انتخاباتنا، ولا كيف سيكون مجلسنا التشريعى القادم. حتى الآن ما زالنا لا نعرف نظامنا الانتخابى وإلى أى مدى ستستمر مقاومة نظام القائمة النسبية المغلقة غير المشروطة للحزبيين والمستقلين، والذى توافقت عليه القوى السياسية. بالتالى لا نعرف الشكل الذى سيستقر عليه مجلس الشعب القادم، وهل يتشكل برلمان النهضة القادم من حوالى سبعين فى المائة من العمال والفلاحين تبعا للنظام الذى يصر عليه حتى الآن المجلس العسكرى؟
نحن نقف فى مفترق طرق, كميدان لا تحده خطوط اتجاه, يتدافع فيه المصريون كفرق كل منها يسعى لتأمين توجهه. لقد أدى التباطؤ إلى بقائنا طويلا بهذا الميدان، مما أدى إلى شق كتلة المصريين، وإلى وضع أكثر إهداراً لطاقات القوى الوطنية.
إن الأرضية الدستورية التى نقف عليها هى فى تقدير البعض رخوة, فهناك كثيرون غير مؤمنين أن دستور 71 قد سقط, بل يملأهم الاقتناع أن ما جرى من استفتاء الشعب على تعديل لمواد فيه بعينها وبأرقامها, هو تأكيد لشرعية هذا الدستور وبقائه. إن القرار غير الدستورى للرئيس المخلوع بتفويض المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارة شئون البلاد هو بالتأكيد ليس بأساس لإسقاط دستور 71. لقد سكت عن هذا الدستور الذين كرهوه كما سكت عنه من استفادوا من إسقاطه لتأييد سلطتهم. عموما يظل هذا الدستور فى نظر البعض هو المرجع الذى يرسم طريقا ينص على انتخاب رئيس جديد خلال 60 يوما من خلو المنصب.
نعايش مضطرين مرحلة فاتنا فيها برغم شهورها الطويلة التى مضت أن يكون لنا فيها قيادة شرعية منتخبة يلتف حولها الشعب المصرى، وأن يكون لنا دستورا يرسم توجهاتنا وشكل دولتنا ومؤسسات تشريعية ورقابية تحافظ شعبيا على اتزان الحكم.
فى ظل ما سبق يتساءل الكثيرون عن خريطة الطريق الزمنية, فلا أحد يعرف ما عمر مجلس الشعب القادم، وهل يتم حله سريعا فى ظل دستور يخلو من نسبة الخمسين فى المائة بعد ذلك، وهل يتم حل مجلس الشورى بعد انتخابه فى ظل توافق مجتمعى عام بإلغاء وجوده فى الدستور القادم؟ الجميع يتساءل عن الفائدة المرجوة من مسار يشبه اللف والدوران وكم يكلفنا ذلك ماليا فى ظل معاناة شعب وميزانية.
يأتى انتخاب رئيس جديد بالرغم من محوريته كمنطقة غامضة لا يعرف الشعب هل نصل إليها ومتى يكون ذلك؟
تبقى عناصر السيولة الأساسية هى ارتباك المسار، وتباطؤه حتى إن ستة أشهر قد مرت ومازلنا فى ميدان بدون خطوط واضحة للسير أمام مفترق طرق لا نعرف أى منها سنسلك. بالمثل تأتى المناورة فى حسم الملف الأمنى كعنصر أساسى فى السيولة نتج عنه خسائر كثيرة فى مقدرات الشعب المصرى.
عموما لقد كانت المناورة والارتباك هما عنوان المرحلة الماضية، مما أجهد الثوار فى مليونيات واعتصامات بدلا من حشد الروح الجديدة التى صاحبت أيام الثورة الأولى فى بداية مبكرة لنهضة يشتاق إليها المصريون.
لقد كان حرى بمصر أن تجنى ثمارا لا حصر لها من سياحة عالمية تريد أن تحتفى بالثورة المصرية، ولكن أضاعتها المناورة فى حسم الملف الأمنى وفى إدارة باقى الملفات.
كان حرى بمصر أن تشهد نهضة شاملة تبدأ مستغلة استعدادا شعبيا لا حدود له فى المشاركة والتعاون والإبداع بعد نجاح الثورة فى إسقاط رأس النظام.
إن هدف النهضة يبدو بعيدا فى ظل سيولة وغموض موقف وإحباط شعب ومناورة وارتباك قيادة، لماذا هذا يا من بيدكم الأمر؟