كانت وقائع الشغب البريطانية التى انفجرت فى منطقة توتنهام بلندن فى يوم السبت 5 يوليو الفائت مثار محاولات مصرية عسفية لخلق روابط بينها وبين أحداث غضب ثورة يناير، وقام البعض بتصعيد ذلك الربط متحدثاً عن أن ثورة يناير ألهمت البريطانيين فاندفعوا إلى تثوير الشارع فى تلك الأصقاع البعيدة.
والحقيقة أننا ننظر إلى ثورة يناير المصرية باعتبارها حدثاً تاريخياً كونياً، وملهماً للآخرين فعلاً، ولكن ليس بمقدورنا الاشتراك فى محاولة تزييف الوعى العام فى بلدنا، وإرضاء نزعات الزهو الوطنى، والافتخار، فى المطلق، عبر اللعب فى دلالات الأحداث ومنطقها.
بداية.. فإن ما جرى فى بريطانيا هو تمرد اجتماعى بطبيعته، يكشف عن هشاشة المزيج العرقى فى البلاد، أما الذى جرى فى مصر فهو- وقت وقوعه- ثورة اقتصادية اجتماعية سياسية، وإن كانت تداعيات المواقف دفعت إلى إهمال الجانب الاجتماعى، والتركيز الكامل على الشق السياسى بما يستتبعه من توزيع الأنصبة وتحديد وترسيم مناطق النفوذ والاختصاص.
نعم.. حدث هذا فيما كان الانفجار الاجتماعى المليونى المروع الذى رافق حركة شباب ثورة يناير هو الجسم الحقيقى للثورة، والذى كانت مطالبه اجتماعية بالدرجة الأولى.
يعنى المشهد المصرى يقول إن هناك تشاغلاً عن التفاعل مع الهدف الرئيسى للثورة، وهو اجتماعى، فيما المشهد البريطانى يتفاعل بعنف مع الهدف الرئيسى للتمرد، وهو اجتماعى كذلك.
وليست هذه السطور عملاً توبيخياً يحاول رد الثورة إلى مسارها الطبيعى الذى يضع الحرية الاجتماعية فى أول أولوياته، إذ -بيقين- أعرف أن هذا ما ستصل إليه ثورة يناير فى نهاية المطاف، لأن معلوماتى تقول إن الكثير من فصائلها يمارس- الآن- النقد الذاتى، ويستعدل بعض مواقفه، ويحاول التغلب على النزعات الانتقامية التى يعتبرها أصحابها مأثرة تجاوز كل المآثر، كما يحاول الانتصار على ذلك التعامى عن أهداف الثورة الاجتماعية، والارتماء فى أحضان حفل توزيع الأنصبة السياسية.
ولكن سطورى- هنا- هى محاولة لشرح المشهد البريطانى الذى أتاحت لى ظروف عملى فى لندن- مرة فى المركز الرئيسى لإحدى الصحف العربية الدولية، ومرة فى مكتب جريدة الأهرام- الاندماج فى طقس متابعته، وتفسيره، وفك تشفيره.
ثلاثة مواقف- بالتحديد- أعنيها فى هذا السياق:
مظاهرات ضريبة الرأس «بولتاكس» فى 1985.
مظاهرات بريكستون عام 1996.
ثم تجىء متابعتى- ثالثاً- فى مظاهرات توتنهام وما تلاها عام 2011.
هنا يجوز الربط لأن المسبب واحد، وأعنى به اتخاذ حكومات حزب المحافظين «ماجى ثاتشر فى الأولى- وجون ميجور فى الثانية- ودافيد كاميرون فى الثالثة» حزما من القرارات والسياسات والتوجهات تؤدى إلى هياج اجتماعى هادر، كونها تتجاهل حقوق البسطاء، ولا تلبى سوى احتياج الطبقات القادرة الثرية.
فى عام 1985 قررت حكومة مارجريث ثاتشر ما يسمى ضريبة الرأس، التى تعنى فرض ضريبة على كل فرد فى الأسرة، وليس على الأسرة كلها، الأمر الذى شكل اعتداء وحشياً على اقتصاديات الأسر الفقيرة، وقد وصفه لى المفكر اليسارى العمالى البريطانى «طونى بن» فى أواخر التسعينيات بأنه «عمل اجتماعى بربرى»، وأدى ذلك التوجه إلى اندلاع أعمال شغب امتدت إلى وسط العاصمة، وأحد مشاهدها التى لا تنسى كان استخدام وزير الداخلية- آنذاك- مايكل هوارد «الذى صار زعيماً لحزب المحافظين منذ سنوات قريبة» قوات شرطة تمتطى صهوات الخيول فى ضرب ودهس المتظاهرين تحت السنابك فى ميدان ترافلجار الشهير، فى نسخة بريطانية من موقعة الجمل، ولا نذكر هذا المثل لتبرير العنف ضد المتظاهرين، ولكن لإظهار حجم الصدام مع سلطة حزب المحافظين على أرضية اجتماعية فى ذلك الوقت. وفى عام 1996، وفى منطقة بريكستون جنوب لندن، والتى تقطنها أغلبية من ذوى الأصول الجاميكية، وقع صدام اجتماعى مدو بين الفقراء والسلطة الأمنية لحكومة جون ميجور «المدهش أن بريكستون كانت مسقط رأس ميجور الذى عمل- هو- كمسارياً ثم درس المحاسبة وأصبح سياسياً وصل إلى منصب رئيس وزراء» ولكن ميجور لم يستطع التملص- فى فترة حكمه الوجيزة- من مواريث ثاتشر الاقتصادية والاجتماعية التى حماها أركان الحزب والحكومة من اليمنيين المتطرفين، أمثال مايكل بورتيللو، وزير الدفاع، وجون ريد وود، وزير شؤون ويلز، ومايكل هوارد، وزير الداخلية، والذين أسميتهم «عيال ثاتشر».
ومن ثم انفجرت الأوضاع الاجتماعية بسبب هذه السياسات التى هندست أزمة كبرى عند الفقراء، وتضررت منها حزمة السياسات التى تسمى دولة الرفاه welfare-state المتعلقة بإعانات البطالة، ومجانية خدمات الصحة والتعليم، والضرائب التصاعدية على الدخل.
وبالطبع فإن حدوث تمرد كبير فى مجتمع أقلية «جاميكية فى تلك الحالة» يؤدى إلى تحميل التمرد بمواريث عرقية لم تك هى السبب المباشر فى اندلاع الاضطرابات.
أما فى أحدث 5 يوليو 2011، والتى بدأت بمصرع «مارك توجان» الأسود قتيلاً على يد الشرطة يوم الخميس 3 يوليو فى توتنهام وتلكؤ التحقيق مع قاتليه، فقد أوحت بما يمكن أن يتصوره البعض مشهداً عنصرياً أو تمييزياً، ولكنه أطلق بركاناً اجتماعياً سببته سياسات التقشف التى انتهجتها حكومة دافيد كاميرون، وأدت إلى اقتطاعات هائلة «بلغت فى بعض المناطق 75 % من موازنات الخدمات للفقراء».
ولقد أدهشنى -شخصياً- التجاء دافيد كاميرون لتلك السياسات، إذ ينظر إليه المجتمع السياسى البريطانى بوصفه «رمز جناح الحزب اليسارى» وهو ما يعد امتداداً لفكر وتوجه مايكل هيزلتاين، نائب رئيس الوزراء أيام ثاتشر «من أسميته طرزان حزب المحافظين»، ومعه- كذلك- كينيث كلارك، وزير خزانة ميجور، «وأسميته وقت تغطيتى الشأن البريطانى البلدوزر».
إلا أن الرجل وقع –فيما يبدو- أسير ضغوط الجناح اليمينى فى حزبه، فضلا على الأزمه الاقتصادية العالمية، التى تهز- بعنف- عددا من الأنظمة المالية على جانبى المحيط الأطلنطى
نهايته...
امتد الحريق الاجتماعى من توتنهام، إلى بريكستون، وكلابهام، ولويشام، وهونسلو، ثم خرج من لندن إلى عدد من المدن الصناعية فى ليدز، وبرمنجهام، وكرويدون «وهى تشبه دمياط فهى مدينة مشهورة جداً بإنتاج الأثاث وتتناثر فى كل شوارعها ورش صناعة الموبيليات».
تلك هى- دائماً- البيئة الحاضنة للعنف.. المناطق العشوائية أو الفقيرة أو الصناعية، هناك حيث يعيش الفقراء.
وعلى امتداد التاريخ البريطانى، وحتى فى التراث الروائى للبلاد، كانت مناطق مثل: تاور هاملت، وإليفانت آند كاسيل، وبريكستون، وكلابهام، ولويشام، وهونسلو هى مسرح العنف، لا بل جعل الروائى تشارلز ديكنز من بعضها مسرحاً لأحداث رواياته عن عالم الفقراء، وبالذات رواية «أوليفر تويست» التى جرت وقائعها فى تاور هاملت.
ولم تشهد تلك المناطق محاولات للعناية والتطور، إلا إبان ظهورات حزب العمال السياسية فى قيادة البلد، وربما كان آخرها ما تمثل فى تولى كين ليفنجستون منصب عمدة لندن منذ سنوات «وهو من أسميته العمدة الأحمر».. وبالمناسبة هو يعد العدة- الآن- لانتزاع منصب العمدة من الكادر المحافظ بوريس جونسون.
وغير ذلك أهملت الإدارة المحافظة المناطق الفقيرة وفقراءها، وقامت- بتصنيع بيئة مثالية للعنف، عكستها أحداث الأسبوع الماضى.
مرة أخرى لمن شاء أن يتعلم، الغضب البريطانى هو تمرد سببه أوضاع اجتماعية ظالمة.. والغضب المصرى هو ثورة سياسية اجتماعية نسى أصحابها الشق الاجتماعى، وانهمكوا فى الجانب السياسى، وتقسيم الأنصبة وعمليات الظهور الواسعة النطاق.
ومن هنا لزم التنويه أو التنبيه على اختلاف الغضبين، وإن لم يمنعنا من التأكيد على أن الثورة المصرية -فى لوحة أسابيعها الأولى- كانت ملهمة بالفعل، أما اليوم فحجم ارتباطها بمكونها الاجتماعى- بالقطع- يختلف عن ذلك الذى ساد شوارع لندن وضواحيها، والمدن الصناعية خارجها!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
المتحولون
عدد الردود 0
بواسطة:
ايهاب
نوى شبين القناطر
عدد الردود 0
بواسطة:
matadoor
الاكل علي كل الموائد
عدد الردود 0
بواسطة:
جناح النسر
بغض النظر
عدد الردود 0
بواسطة:
الكلب النباح
هذا صوت نباح كلب كان يصرخ لسنوات مضت