لا أعرف لماذا يغضب البعض عندما نعلن تمسكنا بالفقه المصرى الرحب، المؤسس على تراكم من الاجتهادات الفقهية المهمة التى لم تنقطع طيلة القرن العشرين، واستمرت حتى الوقت الراهن؟ولماذا ينزعج البعض عندما نقول إن «الفقه المصرى» وضعه علماء تمسكوا بدينهم، ولم يفرطوا فيه، واستلهموه فى وضع أساس الحياة الإنسانية التى تجمع بين الدين والدنيا فى المجتمع المصرى؟
الفقه المصرى يجسد طبيعة المجتمع، وهو - بحكم التعريف - يختلف عن الفقه المتبع فى دول أخرى لها طبيعة مختلفة، وهو ما يجعل بالضرورة «الفهم الدينى» مختلفًا من مجتمع لآخر؟ هل مصر مثل باكستان أو السعودية أو أفغانستان؟ الإسلام واحد، ولكن يتعدد الفهم الدينى تبعًا لتنوع المجتمعات. هذا أصل الأشياء. الإمام الشافعى غيّر كثيرًا من أحكام مذهبه عندما انتقل من العراق إلى مصر.
من هنا فإننى أعتز بمدرسة الفقه المصرى التى نعرفها، منذ الإمام محمد عبده، مرورًا بالشيخ محمود شلتوت، والدكتور عبدالمتعال الصعيدى، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والأستاذ خالد محمد خالد، وانتهاء بعلماء مهمين مثل الشيخين يوسف القرضاوى، ومحمد الغزالى، والدكتور أحمد كمال أبو المجد، وآخرين.
هؤلاء لهم آراء معتبرة فى العلاقة بين الدين والدولة، الحرية الدينية، أسس المواطنة فى الدولة، والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين فى إطار بناء دولة حديثة تقوم على حكم المؤسسات، وتحفظ للدين مكانته فى البناء السياسى والقانونى.
من هنا أتحفظ على الآراء الفقهية الواردة من مجتمعات أخرى لها طبيعة مختلفة عن طبيعة المجتمع المصرى. هذا ما سميته «الفقه المستورد»، وأزعج البعض، هو بالفعل مستورد بمعنى أنه لم ينبت فى الخبرة الحضارية المصرية. وكلمة «مستورد» ليست سلبية، ولكنها تفيد بالاختلاف عن «المحلى». ومن يطالع كتابات العلماء المعتبرين الذين ذكرت بعضهم يعرف جيدًا حجم الهوة بين الفقه المصرى الذى تبلور فى إطار «الأزهر» والآراء الفقهية التى هبت علينا من خارج مصر.
الذين أزعجهم مقالى السابق «فقه مصرى أم فقه مستورد؟» أسوق إليهم «فتوى» صدرت عن المجلس الأوروبى للإفتاء والبحوث تفيد بأن المرأة الأوروبية التى تسلم يجوز لها أن تعيش مع زوجها غير المسلم، وهناك مبررات سيقت لتبرير هذه الفتوى بالنظر إلى أحوال المسلمين فى المجتمعات الأوروبية، فهل هذه فتوى عامة للمسلمين فى كل مكان؟ بالطبع لا، وهل هى تلزم المرأة المسلمة فى المجتمعات غير الأوروبية؟ بالطبع لا. أعرف أن هذه الفتوى، التى أيدها عدد من العلماء من بينهم الشيخ يوسف القرضاوى، قد أثارت فى حينها عاصفة من الانتقادات، لكنى فقط أقدمها للتدليل على أن الآراء الفقهية تختلف من مجتمع لآخر، حسب ظروف الحياة السائدة فى المجتمعات، فلماذا يغضب البعض عندما نتمسك بالفقه المصرى، الذى تراكم على أيدى علماء مصريين معتبرين، ونرفض فى الوقت ذاته آراء فقهية لها ما يبررها فى مجتمعات أخرى لا تعرف الخبرة المصرية؟
إننى - كأحد المطلعين على كتابات الفقهاء المصريين - أشعر بالأسى على تراجع الوعى بها إلى الحد الذى يجعل البعض مفتونًا بآراء فقهية غريبة لا تتناسب مع التجربة الحضارية للمجتمع المصرى. التعريف بالفقه المصرى مسؤولية مؤسسات كثيرة، فى مقدمتها الأزهر صاحب المخزون الحضارى للفقه المصرى، ووزارة الأوقاف، والمنابر الثقافية والإعلامية العامة.
وأعرف جيدًا أن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يؤرقه هذا الأمر، وهناك مشروع طموح لمكتبة الإسكندرية، يشرف عليه الدكتور صلاح الدين الجوهرى لنشر الأعمال المهمة فى الفكر النهضوى العربى والإسلامى، ظهرت له بعض الثمار.
لا أعتقد أن الثورة المصرية، مادمنا نطلق عليها «مصرية»، سوف تستمر، وتتطور، وتفرز فى النهاية نظامًا سياسيّا حديثًا إلا بالركون إلى الفقه المصرى، وليس بالعودة إلى آراء فقهية مأخوذة عن خبرة مجتمعات أخرى. المجتمع المصرى له طبيعته، وفقهه، ينبغى معرفته، والحرص عليه. وثيقة «الأزهر» التى صدرت منذ أسابيع استلهمت الفقه المصرى، ومن الأصوب الالتفاف حولها، ومناقشتها نقاشًا جادّا حتى لا نجد أنفسنا على أعتاب دولة الاستبداد الدينى.