فى أواسط سبعينيات القرن الماضى حفزنى الطموح مع الحب الكبير على إجراء حوار مع فتحى رضوان، الذى كنت وسأظل مفتونا بشخصيته، بتاريخه الحافل مذ كان عضوا بارزا بين طليعة الحزب الوطنى الأصلى، إلى أن قامت ثورة يوليو فاختارته وزيرا للإرشاد القومى، فأنشأ مصلحة الفنون ووضع على رئاستها يحيى حقى، الذى وضع بدوره كل الأوتاد التى قامت عليها وزارة الثقافة فيما بعد.
مفتونا كنت وسوف أظل مفتونا بثقافته الموسوعية المتعمقة، الجادة، المسؤولة، لو أخذنا - فقط - كتابه الضخم: «الإنسان بين السلم والحرب» لوجدنا أنفسنا أمام عمل ثقافى تاريخى فذ، عمل يمكن تسميته بالصناعة الثقيلة فى المجال الثقافى، فلئن كانت الصناعة الثقيلة هى المصانع التى تصنع آلات المصانع، فإن كتاب «الإنسان بين السلم والحرب» لفتحى رضوان يصنع المثقفين والباحثين والمؤرخين والقادة والساسة، مع العلم بأن القارئ العادى يستطيع استيعابه بيسر وسهولة، نظرا للغة العبقرية التى صيغ بها الكتاب، وهى من بلاغة السهل الممتنع، فإذا راجعنا عشرات الكتب التى ألفها فتحى رضوان فسوف نجدها مراجع نادرة فى ربط السياسة بالثقافة كوجهين لعملة واحدة، هى الكرامة الإنسانية، فالثقافة والسياسة كلاهما فحص فى التاريخ المنصرم وإسهام فى صنع حاضره ومستقبله، فبالإضافة إلى كتابيه عن طلعت حرب وعن أفكار الكبار، لا يخلو كتاب من كتبه الكثيرة من بحث أو أكثر فى التاريخ المصرى، القديم والحديث والمعاصر، على أنه مولع بتاريخ الشخصيات ذوى الإسهامات البارزة فى السياسة والآداب والفنون.
إنه شخصية كبيرة الحجم حقا يمكن، بل هو الواقع، وضعه فى صف كبار الساسة العظماء فى تاريخ مصر المعاصر، الوطنيين عن حق وصدق وإخلاص وتفان، ونستطيع وضعه بكل جدارة فى قائمة كبار المثقفين العمالقة أصحاب الإسهامات الفكرية فى بناء العقلية الثقافية العامة، وفى بث الحرارة فى الروح الوطنية المصرية، إلى ذلك من كبار الأدباء المبدعين، فقد كتب القصص القصيرة والطويلة، والسيرة الذاتية البديعة، وألف عدة مسرحيات عرضت على خشبة المسرح القومى، وحظيت بأعداد هائلة من الرواد ومن التعليقات السخية، كل هذا إضافة إلى أنه فى الأصل من كبار المحامين، له صولات وجولات أمام المحاكم.
جهزت أسئلتى وذهبت إليه فى مكتبه بشارع عدلى، أجريت أعمق وأروق حوار فى حياتى آنذاك، بفضل إشعاع الرجل وغزارة علمه ومعلوماته وقوة ذاكرته، مع أنه كان أيامها فوق السبعين من عمره، لكنه باسم الله ما شاء الله كان يتألق شبابا وحيوية، وكان يرتدى قميصا بنصف كم زهرى اللون على بنطال أزرق غامق، وينتعل حذاء مفتوحا أسود اللون على جورب خفيف فى لون القميص.
حينما انتهينا غادرنا المكتب معا، هبط السلم أمامى فى رشاقة، وقفنا أمام باب العمارة ليكمل توصياته لى بأن ألتزم الدقة فى الصياغة دون تهويل صحفى، كان يتأبط كتاب تاريخ الفكر المصرى الحديث للدكتور لويس عوض، فخيل إلى أنه طالب جامعى يراجع مع المدرس قبل الامتحان، فى تلك اللحظة ظهر صبى فى حوالى العاشرة من عمره يدفع أمام قدميه كرة على الرصيف حيث نقف، وفجأة نطت الكرة بقوة وضربت وجه الرجل، فوقف الولد مشدوها من الخجل والمفاجأة، وكنت أنا أشد خجلا منه، توقعت أن فتحى رضوان سيغضب ويعنف الولد المستهتر قليل التربية، لكننى - وحق جلال الله - فوجئت به قد احتوى الكرة على صدره كلاعب محترف، ثم تركها تتدحرج إلى أسفل، ليعوج ساقه اليمنى فيتلقاها بحرفنة أين منها حرفنة أبوتريكة، ثم - ياللعجب - يقوم بتنطيقها عدة مرات، ثم يشوطها بهندسة محسوبة كأنه يسلمها للولد فى قدميه، وفيما الولد يتلقى الكرة فى فرح اقترب منه قائلا كأنهما ولدان من حارة واحدة: لو كنت جدع ابن جدع اعمل زى ما أنا عملت، ثم حيانا معه، وهبط إلى الشارع فعبره إلى الرصيف المقابل، ومشى إلى البيت سيرا على قدميه.
عدد الردود 0
بواسطة:
أحمد خالد
تحية كبيرة