غابت الابتسامة وساد الصمت واحتل الألم ومرارة الفراق مكان كرسيه الشاغر على مائدة الإفطار، هى المرة الأولى التى لا يشاركهم فيها أبناؤهم فرحة صوم شهر رمضان، هذا هو حال المئات من أهالى شهداء الثورة المصرية، «اليوم السابع» التقت أربعًا من أسر الشهداء أثناء الإفطار، لتنقل جراحهم وهمومهم التى لا يعرفها سواهم، وكانت أبرز مطالبهم هى رغبتهم فى أن يقبل فريد الديب، محامى الرئيس السابق حسنى مبارك، دعوتهم للإفطار معهم فى أى من أيام الشهر الكريم ليرى بنفسه المأساة التى يعيشون فيها بعد فقدان أبنائهم.
فى منزل متوسط الحال، وسط أحد أحياء منطقة شبرا الخيمة، استقبل شاكر عبدالفتاح شهر رمضان بنفس مكسورة، فلأول مرة يشعر وكأن الشهر ضيف ثقيل لا يتراجع عن تذكيره بولده مصطفى الذى توفى يوم 28 يناير برصاص الشرطة أثناء خروجه من المنزل متجها إلى ميدان التحرير.
يدخل شاكر غرفته كل يوم أثناء الإفطار وحيدا يبكى بشدة لحرمانه من ابنه الذى لم يغب يوما عن مائدة الإفطار، يلتقط الوالد صورة مصطفى ويقول: «كان عنده 32 سنة حاصل على دبلوم تجارة وكان يعمل فى مهنة النقاشة، لما بدأت المظاهرات يوم 25 حذرته من عدم المشاركة فيها وقلت له «احنا عود فى حزمة يا بنى» وهناك قوى معارضة تتصدى لبطش النظام السابق، إلا أن مصطفى لم يستطع أن يلزم مكانه صامتا وقرر أن ينضم لبقية الشباب معبرا عن غضبه من نظام قضى على أحلامهم».
عم شاكر وجه دعوة عبر «اليوم السابع» إلى فريد الديب ليفطر معهم قائلا: «عاوزك تيجى تفطر معانا وتشوف حالتنا المعنوية والصحية بقت عاملة إزاى، وشوفنا أنا وإخواته واحنا بناكل كل واحد فينا فى مكان.. وشوف التاكسى اللى بشتغل عليه هجرته من يوم 28 يناير، وشوف عيون أمه اللى مابقتش تشوف بيها بسبب البكا على ابنها ليل مع نهار».
والدته التى تبلغ من العمر 62 عاما، تلتقط منه أطراف الحديث قائلة فى حزن شديد: «رمضان جميل وحلو لكن من غير مصطفى ابنى صعب عليه ومفيش نفس للأكل بس الحمد لله مصطفى عند ربنا اللى أحسن مننا كلنا».
وبنفس الآهات سيطرت حالة الحزن على أسرة الشهيد سيد عبدالحميد محمد حسن التى عاشت لحظات صعبة فى أول أيام رمضان، حيث نزلت والدته إلى الشارع وقت الإفطار وظلت تردد: «أنا هستنى سيد مش هفطر من غيره.. هو جاى دلوقتى».
وأمام الصور التى ملأت أركان الشقة، تحدث شقيقه محمد، قائلا: «سيد كان بيحضر للزواج لكن الثورة عطلت زفافه إلى أن جاء موعد وفاته»، يضيف: «كان عنده 30 سنة، تحمل مسؤولية الإنفاق على الأسرة عقب وفاة والدى، فخرج من الإعدادية وعمل بمهنة الخياطة، كل أهل الحى كانوا بيحبوه ويشيدوا بمهارته».
يواصل محمد قائلا: «سيد مكنش ليه أى ميول سياسية، بالعكس كنا فى حالنا، لكن «جمعة الغضب» أثارت بداخله أن نكون وسط المتظاهرين ودعمهم».
تتذكر أخت سيد آخر المواقف بينهما قبل نزوله حينما قال لها: «أنا هعملك آخر كوباية شاى علشان خاطر أحمد ابنك ومش هتتكرر تانى».
يتذكر محمد مزاح سيد المتواصل الذى لم يكن يغيب عن مائدة الإفطار، وشنطة الياميش ولوازم الإفطار قبل كل مغرب من أيام رمضان، ويقول: «أنا راضٍ بقضاء الله وممتثل لأمره، لكن لا أقبل أن يخرج من قتلوا أخى من قضاياهم دون حساب، ولا أن يحاول مبارك كسب عاطفة الشعب المصرى وأن ينسى الجميع قنبلة موقوتة فى مصر وهى «أسر الشهداء»، فنحن لن تهدأ نارنا إلا بالقصاص منه والعادلى. موجها حديثه لفريد الديب: «مهزش فيكم ألم أم من أسر الشهداء؟».
بنظرة لم تستوعب بعد ألم الفراق، وبراءة طغت على ملامحهما، وقف «عمر» و«سلمى» بجوار والدتهما دون أن يدركا أن والدهما لن يجلس معهما مرة أخرى على مائدة الإفطار.
شيرين عبدالعزيز، زوجة الشهيد محمد محمود أحمد على، لم تستطع أن تعيش فى شقتها وزوجها لم يعد موجودا فيها، زحفت إلى بيت أبيها تاركة خلفها ذكريات مائدتها الصغيرة التى جمعتها مع زوجها وطفليها العام الماضى، تنظر شيرين إلى الطعام محاولة أن تمسك دموعها وتقول: «يسألنى عمر وسلمى بابا فين يا ماما وهييجى امتى؟.. ومبعرفش أقولهم إيه؟! بس بقولهم بابا فى الجنة»، وتستطرد حديثها مشيرة إلى الطفلين: «رمضان مالوش طعم من غير أبوهم كان بيملى علينا البيت».
وتضيف: «لو كان مات وهو بيحارب عدو صهيونى كان بقى أهون من موته على ايد الشرطة المصرية واللى عملوه معانا فى المحكمة ومنعنا من الدخول إهانة لكل أهالى الشهداء.. نفسى أروح لفريد الديب اقف جنب الحق قدامك القاتل والمقتول».
محمد الذى لم يكن تجاوز 30 من عمره ويعمل فنى تركيبات مات فى 28 يناير مختنقا من القنابل المسيلة التى ألقتها الشرطة على المتظاهرين وأدت لاشتعال أتوبيس النقل العام الذى كان يركبه متوجها إلى عمله فى ذلك اليوم.
«أوعى يا عبدالفتاح متفطرش معانا أول يوم فى رمضان» كلمات دأبت والدة الشهيد عبدالفتاح جميل، 28 عاما، قولها له منذ خروجه ليعمل غفيرا لأحد الاراضى بمحافظة القليوبية تاركا المنزل الذى كان يعيش فيه مع أسرته ببولاق الدكرور، فكان يرد عليها قائلا: «رمضان ميبقاش ليه طعم لو مفطرتش معاكم أول يوم».
كلمات عبدالفتاح التى ما زالت تتردد على أذن والديه تحولت إلى كابوس لا يجعلهم يسعدون بالشهر الكريم، رحل عبدالفتاح وترك ابنيه محمد وأدهم مع جدهما الذى يتجاوز 60 من عمره، وجدتهما المصابة بشلل نصفى، بعدما اخترق رصاص القناصة ظهره أثناء بحثه عن أخيه الذى نزل لكى ينضم إلى المتظاهرين.
عم جميل كان يعمل نجارا، إلا أنه مع كبر السن توقف عن العمل، وكان عبدالفتاح ابنه الأكبر هو من يتولى مسؤولية الإنفاق عليه وعلى والدته، يقول: «كان يدخل على أمه قبل رمضان بأيام بشنطة الياميش ويقولها متنسيش تعمليلى كوباية البلح اللى بحبها على الفطار»، عمل ابنهم فى محافظة أخرى لم يمنعه على مدار 8 سنوات عملا من القدوم للوفاء بوعده مع والدته والإفطار معها.
يستكمل عم جميل حديثه قائلا: «عبدالفتاح لم يكمل تعليمه لكنه كان عارف ربنا، وأى طعام كانت تعده له أمه يحمد ربنا لدرجة أنها تقوله أنت محسسنى إنى عاملة خروف، ورغم أن ولاد الحلال فى المنطقة لم يسألوا علينا باستمرار إلا أننى أشعر بالوحدة وبقيت أنا ووالدته ناكل عشان نعيش ومش مصبرنا غير وجود أولاده معانا».
موضوعات متعلقة ...
"أهالى الشهداء" يدعون «فريد الديب» للإفطار معهم فى رمضان
«عاوزينه يجى يفطر معانا ويشوف حالتنا الصحية والمعنوية عاملة إزاى»
"أهالى الشهداء" يدعون «فريد الديب» للإفطار معهم فى رمضان
السبت، 13 أغسطس 2011 12:43 ص