صحيح، لا ينتهى أمر الواحد منا أبدًا، مادام لديه قصة يرويها، وشخص آخر يصغى إليه، هكذا قيل. بل إن من حظ الناس الحَسن أنهم لا يكفون عن سرد تلك الحكايا الصغيرة التى يتبادلونها طيلة الوقت. إنها ما يجمع بيننا، وما يبقينا على قيد الحياة.
أفكر فى ذلك ما أن انتهيت من قراءة كتاب «الجو العام» للشاعر إبراهيم داود الذى يقدم فيه ثمانية وثلاثين نصّا، صاغها فى سياق قصصى.
ولكننى أود، قبل أن أتحدث قليلاً عن الكتاب، أن أحمد الله أننى لست بناقد، لأنهم قيل فيهم قديمًا إنهم يرسمون خرائط للجبال التى يتعرفون معالمها من دون أن يتسلقوها قط، بل أنا مجرد واحد شغوف بالحكايات، فإذا جاء وقت الوفاء بالتزام الكتابة لجريدة أو مجلة ولم يجد ما يحكيه التفت يسجل انطباعاته عن بعض الكتب التى أحبها أو التى استطاع، بالأحرى، مواصلة قراءتها، لا شىء أكثر من ذلك، غالبًا، ولا أقل. وهى وسيلة لا بأس بها وتغنينا عن معاودة تكرار طرح الأسئلة التى لا أجوبة لها فى هذا الواقع المدلهم الذى نعيشه. ومن بين الكتب التى أحببناها مؤخرًا كتاب «الجو العام» لصديقنا الشاعر إبراهيم داود. الذى كنا عرفناه مع ديوانه الأول «تفاصيل» أواخر الثمانينيات، والذى استقبل بحفاوة، باعتباره تعبيرًا عن موهبة بينة ومتميزة.
لم نكن نتصور، أيامها، أنه خلق لكى يكون شاعرًا جوالاً يقترب أكثر من نثر الحياة اليومية متنقلاً ما بين شوارع المدينة وأرصفة مقاهيها وباراتها ومطاعمها ومكتباتها وبيوت قريبة وقصِية وحجرات شبه معتمة عامرة بأصدقاء الليل من شعراء وكتاب قصة ومسرح ومترجمين ورسامين ومطربين ومواطنين عاديين، وآخرين من أصحاب المعاش المبكر وكتاب سيناريو ونحاتين وعازفين، وخلائق مفعمة بالأحلام والأحزان وبعض من ميسورى الحال، وآخرين يحادثون أنفسهم فى الطريق، وحكاك الألماس المصرى الذى يحوله السكر إلى سعودى، وآخرين، وهو يصوغ من ذلك كله قصصًا موجزة تعتمد الحقائق التى يخامرها الخيال. هى ليست اختصارًا لحيوات كاملة، لكنها شرائح من حياة كافية للدلالة على أناس قريبين من القلب من أمثال توفيق: «الذى لا يحب أن يقترب أحد الأصدقاء من مطبخه أو أوراقه الخاصة أو شرائط الكاسيت أو الفوطة الخضراء المعلقة على ظهر باب الحمام»، أو فهمى: «الذى ما إن سافرت زوجته حتى خلع البدلة والكرافت التى أجبرته على ارتدائها، وصار يستقبل زبائن الصيدلية بالبيجاما، وذهب يفتش عن أصدقاء الماضى، وسأل عن صديقه الكفيف صاحب الصوت الجميل، فعلم أنه مات منذ خمس سنوات، واتجه إلى بار استيلا وجلس يشرب البيرة ويبكى»، أو عبدالحميد ومصطفى وكمال وعبدالباسط وشاكر وعفاف وأسماء وغيرهم، وهى مادة ما كان ممكنًا أن تجد صداها إلا لدى كاتب يتمتع بالرهافة والحنو. كما أنها لا تخلو من طرافة. تلك هى طبيعة الحكى غالبًا، ما إن تسعى لكى تحكى شيئًا يتعلق حتى بأكثر الناس جدية حتى تجد أن ما استجاب للحكى هو ما انطوت عليه هذه الحياة من تميز وخفة مبهجة وإن بدت مؤسية. وإبراهيم داود، وإن لم يسع إلى ذلك، هو أحد شيوخ البلد من الشباب، وهى ليست مصادفة أن حدث والتقيت به فى نفس الوقت الواحد بأكثر من مكان، ولقد حدث أننى انتقلت من هنا إلى هناك ثم من هناك إلى هنا، وإذ بى أجده فى كل من الهنا ومن الهناك، ورأيته بعينى يقبل بقامته النحيلة الطويلة وابتسامته الباشة الطيبة التى تملأ وجهه الودود. لقد خرج من تجواله الحميد بذخيرة وافرة من الخبرة والمعرفة، وبحشود من البشر التى أعانته على تقديم هذا الكتاب الممتع عن الصداقة والأصدقاء.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الطفل المخطوف عمرو السيد الفاضى
إستغاثة إلى الله ...... إلى الله ...... إلى الله
عدد الردود 0
بواسطة:
طه موسى
الإطار العام!!