لو لم يكن زكريا الحجاوى أديبًا مفكرًا، وفنانًا شعبيّا لكان قطبًا صوفيّا، إشعاعه الذاتى كان قويّا، مخترقًا مسيطرًا ما أن يقع بصرك على وجهه حتى يخيل إليك أن الإنسانية كلها ممثلة فى ملامحه، حتى ازدحمت التقاطيع واكتنزت الملامح، فتمددت هذه وتلك، فتتفتق عن ابتسامة عريضة كأخدود تعبره المشاعر رائحة جائية، كسكة اتصال بين ملايين من البشر المصريين، حيث إن جميع قرى مصر، عزبها وكفورها ودساكرها - ناهيك عن مدنها - تأخذ مواقعها على خدى زكريا الحجاوى وجبهته المتكورة بشكل ينم عن نبالة عريقة.
عرفته وهو فى عز مجده الإذاعى كمؤسس للملاحم الشعبية الغنائية التى شنفت آذان الشعب العربى كله آنذاك، فى تلك الأيام البعيدة كنت أتردد على الإذاعة لأعرض محاولاتى فى التأليف، فما أن التقيت الحجاوى حتى وقعت فى أسره ورأيتنى أدور فى فلكه كالمسحور أينما ذهب، كان ذلك قبل خمسين عامًا حينما جئت القاهرة أحمل حقيبة فيها أكثر من بدلة، وأكثر من قميص، وبعض ملابس داخلية، وفى حافظتى بضع عشرات من الجنيهات هى كل مدخراتى طوال رحلة شقاء مروعة فى مدينة الإسكندرية، ولقد صور لى الوهم أنها يمكن أن تكفينى لمدة طويلة أكون خلالها قد التحقت بعمل وبمسكن، ولكن الطريق إلى عمل اتضح أنه أطول وأعقد مما كنت أتصور، فالتهمت لوكاندات كلوت بك ومطاعم الفول والكشرى، ومقاهى وسط المدينة كل فلوسى، فتخلصت من حقيبتى، تركتها عند أحد معارفى، يسكن فى ضاحية بعيدة جدّا، ثم أصبح الذهاب إليها لاستردادها مكلفًا ومربكًا، فأهملتها، ولم أعد أملك سوى البدلة التى أرتديها، فكان الحجاوى يبتسم كلما رآنى، يداعبنى بقوله إننى أذكره بأيام تشرده الطويلة ثم ينظر إلى بدلتى فى إشفاق وأسى، ثم يقول هذه البدلة على وشك أن يحدث لها ما حدث لبدلتى الوحيدة، فأسأله فى شغف: ماذا حدث لبدلتك الوحيدة يا ترى؟ فيقول: بدلتك هى التى ستقول لك!
إن هى إلا أسابيع قليلة وتحققت نبوءة الحجاوى، فطوال تلك الأسابيع لم أخلع البدلة مطلقًا، لأننى لم أحظ بمكان مقفول أخلعها فيه لأغسلها، كنت أقطع الليل كله - ناهيك عن النهار - أتنقل سيرًا على قدمى، من مكان إلى مكان، من ندوة إلى عرض مسرحى، إلى جلسات لا تنتهى فى المقاهى الساهرة حتى الصباح، لم يكن ثمة من مكان للمبيت، اللهم إلا لوكاندات كلوت بك بعشرة قروش فى الليلة، إن توفرت، وليس ثمة من دخل مادى على الإطلاق، اللهم إلا نشر قصة عند عبدالفتاح الجمل فى جريدة «المساء» بمائة وأربعين قرشًا، وتلك فرصة لا تتكرر إلا كل بضعة أشهر، ومشكلتى الإضافية أننى غزير العرق، حتى فى الشتاء، كأن نهر النيل ينبع من جسدى، والبدلة تمتص وتمتص، والشارع يدلق عليها أطنانًا من تراب، وكان التعب يرغمنى على التمدد بها فى أى مكان متاح، على الأرض، أو على كرسى، حتى بدأت أشعر بصعوبة فى ثنى ساقى، ولا أستطيع وضع ساق على ساق، هناك أغلال تعوقنى حتى فى السير، إلى أن حدثت انفراجة بتسجيل تمثيلية إذاعية من تأليفى مدتها نصف ساعة قبضت عنها عشرة جنيهات إلا قليلاً، فانطلقت من فورى إلى لوكاندة محترمة لأشبع جوعى إلى النوم، فلما دخلت الغرفة وبدأت فى خلع البدلة فوجئت بأن البنطال قد تصلب، وصار غير قابل للثنى والتطبيق، بله أن يدخل فى شماعة، فتركته واقفًا على الأرض، ثم خلعت السترة، فإذا هى أشبه بقفص من البلاستيك، طرحتها فوق البنطال، فاحتملها الملعون بصلابة كأنه حديد، ارتميت على السرير فى اشتياق، وكانت البدلة واقفة بجوار رأسى أشد ثباتًا على الأرض من السرير!
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرحمن
الله
ايوة ياعم خيرى متعنى متع
عدد الردود 0
بواسطة:
لطفى سالمان
كفاح
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري قومي عربي مسلم
كفاح العظماء
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري قومي عربي مسلم
كفاح العظماء
عدد الردود 0
بواسطة:
أبو جمعه السمالوطى
بلاغة ابداعية مشكوك فيها
عدد الردود 0
بواسطة:
شعبان العدوى المحامى
هكذا يصنع التاريخ!!!!
عدد الردود 0
بواسطة:
شعبان العدوى المحامى
هكذا يصنع التاريخ!!!!