محمد فهيم يكتب: حكايات رمضانية

الأحد، 24 يوليو 2011 01:57 م
محمد فهيم يكتب: حكايات رمضانية طبلة السحور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

محمد فهيم


رغم موجات الحر الشديد إلا أننى أستشعر نسمة رقيقة أقبلت فاخترقت جدار قلبى وسرت بشرايينى فانتفضت لها جوارحى، تلك النسمة التى انتظرها كالملايين من المسلمين كل عام عندما يقبل صوت دار الإفتاء المصرية معلنا قدوم شهر الله الحرام رجب وما يتبعه من نفحات ربانية يحملها إلينا ويحملنا معه فى نسماته كى نصل إلى شعبان ومنه إلى أيام الأنس والوجد والعشق والنور والبهاء والجلال والراحة والرحمة والمغفرة والعتق من النار فى رمضان.

ورغم الحر الذى يصل بى إلى حالة من الضيق إلا أننى أتوق شوقاً لأيام وليالى رمضان التى أتذكرها وأنا طفل بين يدى أمى وجدتى وهن يقمن بشراء السمن والدقيق والعجوة والسمسم لإعداد كحك وبسكويت العيد ولا أنسى أبداً رائحة الفانيليا وبائع النشادر الذى كنت انتظره بفارغ الصبر كى أجرى خلفه وأشتم رائحته النفاذة واشترى منه زجاجة صغيرة فى حجم إصبعى الصغير كى تضع منها أمى على العجين وأجلس جوارها كى أتفرج تارة وأشارك آخرى وتنتابنى أحلام جميلة ومشاعر طفولية لا يعكر صفوها شئ وأظل واقفا على رأس أمى وجدتى وهن أمام الفرن أحمل لهما الحطب وأعواد القطن منتظرا قطف أول ثمرة من الكحك الذى يذوب فى فمى الصغير وما زلت أتذكر طعمه رغم ما مر من سنين وما زلت أستشعر لحظات السعادة التى كنت أعيشها وأحاكى بها أمام أولادى ورغم العمل الشاق الذى كانت تقوم به أمى وجدتى كنت أراهم وكأنهم مقبلون على شئ عظيم وأرى الفرحة تتراقص فى وجوههم وتنبض بها قلوبهم.

أما رمضان ولياليه تلك التى كانت تبدأ مع الهل والأصدقاء بليلة الرؤية والتى كنا نتجمع فيها حول الراديو على ضوء القمر ونملأ الشارع عدوا ومرحاً ونبدأ فى إعداد عرائس الطين ولمبات الصفيح وكنا نلف فتيلها من القطن ووقودها الجاز الذى كنا نسرقه خلسة دون علم جدتى من الجالون فيسقط الجاز على الأرض وهو ما كان يكشف سترنا وعندما ترانا جدتى نحمل لمبة الصفيح وهى مشتعلة تخترق ظلال الشارع ودهاليز البيت كانت تنادى علينا وهى تبتسم قائلة "خلصتوا الجاز اللى ينور عليكوا".

وكانت تحلو الحواديت ولمة الأولاد حول الجد والجدة وهم يقصون لنا حواديت "أمنا الغولة" و"الشاطر حسن" ويقطع حديثهم التثاؤب راجين أن نتركهم للنوم إلا أننا كنا نصر على سماع الحواديت حتى السحور الذى كان عالماً آخر لا يخلو من السعادة والمغامرة، فكنا ننتظر سماع طبلة السحور وصوت عمى "قنعر" وهو ينادى على كل بيت باسمه وما أن نسمعه حتى نجرى خلفه فى الشوارع ونغنى لرمضان وطلبة السحور.

وبعدها نعود إلى البيت حيث تتجمع العائلة للسحور والكل يبدو عليه علامات النعاس إلا نحن فقد قررنا ألا ننام حتى نصلى الفجر بالمسجد ونشاهد أول صباح رمضان ونرى الندى وهو يسقط على نبات البذر بت الذى يخرج نواراً جميلاً كنا نمتصه فى الأيام العادية كل صباح.

وتكتمل فرحتنا بعد آذان العصر بلمة العائلة حيث يجلس جدى وأبى وأعمامى على الحصير وأمام البيت ويتجمع حولهم الجيران استعداداً لسماع صوت القارئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد و محمد رفعت والطبلاوى ونحن حولهم كالطيور الباحثة عن الطعام والأمان فلا نطيق الجلوس من أحاديث الكبار غير المفهومة حتى ندخل البيت لنتابع أحوال الطبخ ودخان الكانون ولهيب البخار الخارج من الحلل التى تهدر من شدة النار وترقص غطيانها طرباً وفرحاً بما تحوى من لحم ومرق وها هى أمى تجلس أمام الكانون تتابع عملها باقتدار فالكل ينتظر الطعام اللذيذ من يديها وها هى جدتى تنادى علينا كى نحضر لها الجرجير ونغسله كى تصنع السلطة وكلنا يرفض متعللا أنا جعان وعطشان ونجرى خارج الدار لنستمع إلى القرآن وأحاديث الكبار التى لم تكن تخلو من الحوار حول العمل وأيام زمان ومشاكل القرية.

وها هو الشيخ يختم ويقول صدق الله العظيم التى طال انتظارها طويلاً ويسكت الجميع وينصت فى إصرار كى يسمع كلمة مدفع الإفطار وعندها نطير فرحاً وتزداد السعادة ويزيل الضيق وتحدث النشوة وتجرى الدماء فى العروق ونخطف لقيمات صغيرة وكثيرة من الماء ونعدو بعدها خارج الدار كى نبدأ مرحلة جديدة من ليلة جديدة من أجمل ليالى العمر فى رمضان فاللهم بلغنا إياه.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة