بادرنى أحد أصدقائى فى مكالمة هاتفية وسألنى إذا كنت من مؤيدى الدستور أولا أم الانتخابات أولا، فأثارنى سؤاله كما أظنه أثار أغلبكم، ورفضت إجابة سؤاله وأعطيته درسا فى أن الثورة أولا، وأخذت أكيل له الاتهامات بأنه وأمثاله أغرقونا فى بحر من المناقشات المذمومة إثمها أكبر من نفعها، وختمت محاضرتى العصماء بأن كل القوى السياسية حاليا – فى آخر مليونية - اتفقت على أن الانتخابات أولا وبالتالى لا يهم رأيى.
فقاطعنى صديقى مستنكرا جملة (كل القوى السياسية... اتفقت)، وأخذ بدوره يعدد لى أسماء الشخصيات البارزة ممن يطلق عليهم النخبة، لا يزالون رافعين شعار الدستور أولا، وكذلك البرامج الفضائية التى تؤجج هذا الخلاف، وتعود لتوقظ فتنة كنا نظنها نامت، لعن الله من أيقظها، ثم أنهى مكالمته بسؤال مباشر: ماذا يحدث لو أعلن المجلس العسكرى استجابته لمطلب الدستور أولا؟.
انقطع الاتصال ولم ينقطع عقلى من التفكير فى سؤاله الأخير، فجلست مسترخيا وأغمضت عينى، وأطلقت لخيالى العنان، ولقلمى أيضا، لعلى أستطيع إجابة سؤاله الذى ضاق به صدرى وعقلى.
بمجرد أن يعلن المجلس عزمه على اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور استجابة لمطالب القوى السياسية - على حد تعبيره - سيقدم له كل الائتلافات - أكثر من مائة ائتلافا - والأحزاب والجماعات والنقابات بقوائم الأسماء التى يرونها الأنسب لوضع دستور الثورة، ويقوم كل فريق بالضغط على المجلس للاستجابة لاختياره على أساس أنه اختيار الشعب، أو اختيار الثوار، وتشتعل البرامج الحوارية بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك، ثم تنتشر المطالبات بالتأنى فى الاختيار وعدم التعجل، بدعوى أهمية هذه الجمعية، ويصبح شعار هذه المرحلة (براحتنا هو إحنا ورانا إيه!).
وبعد صولات وجولات يحاول المجلس العسكرى التوفيق بين كل القوائم المقدمة له، وبمجرد إعلان قائمة كبيرة يراها ترضى جميع الأطراف تنفجر البلاد بالتظاهرات اليسارية والليبرالية والإسلامية والقومية، وكذلك النقابات والاتحادات، ولا أظن يغيب عن هذه الاعتراضات الهيئات القضائية نفسها، الكل يعتبر نفسه أقل تمثيلا فى اللجنة مما يستحق، وأن هناك تحيزا ضده لصالح التيارات الأخرى، شعار هذه المرحلة (ربنا وزع الأرزاق محدش عجبه رزقه، ووزع العقول كل واحد عجبه عقله).
وحين يضيق المجلس العسكرى بالاعتراضات.. يعلن استعداده لإجراء انتخابات شعبية لاختيار الجمعية التأسيسية للدستور فيزداد اعتراضات القوى السياسية خوفا من سيطرة الإسلاميين.
آخر الحلول عند المجلس أن يطلب من كل هيئة سياسية أو نقابية أو عمالية بانتخاب عدد محدد يمثلها فى الجمعية، فتزداد الاعتراضات بسبب الاختلاف على الكوتة المطلوب انتخابها من كل هيئة، فضلا عن حالة عدم الثقة أو الرضا فى الإدارات الحالية التى يخاطبها المجلس العسكرى، فهذا حزب ورقى، وذلك تحت التأسيس، وتلك النقابة لا يزال يسيطر عليها أذناب النظام السابق، والأخرى سيطر عليها الإخوان، وشعار هذه المرحلة (ليه توافق لو كنت تقدر ترفض). يا لها من دوامة لا تنتهى ولا أجد لها مخرجا، فهل أجد لديك أنت المخرج؟
أخذت نفسا عميقا.. وأغمضت عينى ثانية، وافترضت - كى أخرج من هذه الدوامة - أن المجلس استطاع عبور هذا المأزق الكبير كما عبر قناة السويس فى حرب أكتوبر.وبدأ الإعداد للدستور، وسأكون أكثر تفاؤلا وأفترض أن المؤسسين أيضا استطاعوا عبور الأزمة المفتعلة للمادة الثانية التى تشير إلى أن الإسلام هو المصدر الرئيسى للتشريع.
وشرعوا فى تحديد الطبيعة السياسية للدولة هل ستكون برلمانية كبريطانيا؟ أم رئاسية كأمريكا؟ أم رئاسية برلمانية كفرنسا؟ .. ويشرع كل الفرقاء بالضغط على المؤسسين – وليس المجلس العسكرى هذه المرة - بكل الوسائل المتاحة إعلاميا أو جماهيريا ليختار المؤسسين ما يراه كل واحد منهم أنه هو الحق المبين، أو يهدد بالاعتصام.
إذا حدثت المعجزة واتفق المؤسسون فى هذه الأجواء المشحونة على طبيعة النظام السياسى للدولة فهل تراهم يتفقون سريعا فى حصة الرئيس أو البرلمان أو رئيس الوزراء فى السلطات والواجبات أيا كان النظام المتفق عليه، وما أدراكم عن الجدل الذى سيدور بخصوص نسبة العمال والفلاحين فى البرلمان، وكذلك مجلس الشورى هل يتم تفعيل دوره؟ أم يتم إلغاؤه؟
هل يستطيع أحد أن يتوقع رد فعل أكثر من ثلاثة أرباع الشعب المصرى الذى وافق على التعديلات وهو يظن أن الانصياع لنتيجة الاستفتاء من المعلوم فى السياسة بالضرورة، ثم يرى نخبته هم الذين يسحبون حقه من تحت قدميه.
كل هذا – وأضعافه – يحدث ولا يوجد رئيس يطمئن الخارج وينسق بين مؤسسات الدولة، ولا يوجد برلمان يراقب الحكومة ويحاسبها ويمثل الشعب، وحكومة ضعيفة لن تستطيع أن تخرج من جلباب تسيير الأعمال، وعن الأمن تحدث ولا حرج، وأطباء يهددون بالإضراب ومهندسين يعتصمون لتحرير نقابتهم، والميادين لا تخلوا من ثائرين، ومجلس عسكرى يملك كل سلطات الدولة هل نطالبه بالتدخل فيتوغل؟ أم نطالبه بالتراجع فتضيع هيبة الدولة؟
هذه المرة لم أستطع أن أسترخى أو أغمض عينى، إن كان الحديث عن الدستور أولا بعد الاستفتاء خطئا سياسيا، فإن معاودة المطالبة به فى ظل هذه الأحداث تعد جريمة سياسية، ولا أستطيع أن أمنع نفسى من الشك فى نوايا من يقودون هذه الدعوى، فإن قلت لى إن بعض الظن إثم، أقول لك وبعضه أيضا من حسن الفطن.
أعلم أن دعوى الدستور أولا تبدو من بعيد براقة وجذابة ولكنها – إن دققنا النظر فيها – نجدها خادعة هالكة، كالطعم (بضم الطاء وتسكين العين) الشهى الذى يستخدمه الصياد فى صنارته ليغرى به السمك، فينجذب بعضه إليه فيكون سببا فى هلاكه ، ولكنى أحذر من يعتقد نفسه صيادا ماهرا أننا لن نلتقم الطعم، أو ننخدع بمعسول كلامه، لأننا ببساطة.. لم نعد سمكا.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الحي ابو المجد عمام
احسنت
عدد الردود 0
بواسطة:
إبراهيم
عنوان غير مناسب
عدد الردود 0
بواسطة:
amr
العنوان مخالف
عدد الردود 0
بواسطة:
سعد دزك
عفااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااارم
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود عباس
العنوان
اضم صوتي الي السيد ابراهيم المطالب بتغيير العنوان
عدد الردود 0
بواسطة:
mordy
يااستاذ يا محترم
عدد الردود 0
بواسطة:
islam
عنوان قبيح
عدد الردود 0
بواسطة:
دعصام
الي كاتب المقال
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
حراااااااااااااااااااام
عدد الردود 0
بواسطة:
حسام حسن مجاهد
حسبى الله ونعم الوكيل