- 1 -
تعد التجارب الموجعة، عصية دائماً على التعبير. إنها (المسكوت عنه) وهى وراء كل كتابة كبيرة. والمثال الذى يمكن أن نسوقه هنا: أنه ليس مهماً أن نكتب عن آلامنا، مثلاً، فقد يستطيع ذلك من لم يجرب الألم. المهم أن يكون الألم هو الزاد الذى نكتب به. وليس مهماً أن نكتب عن العدل حتى، فى هذا الشأن، الطغاة لا يباريهم أحد. المهم أن نتعلم لا أن نكتب عن العدل، وإنما كيف نكتب بعدل.
- 2 -
فى العقد الثالث من القرن الماضى ذهب «صامويل بتنام» يسأل همنجواى أن يحدد أهدافه، فأجابه قائلاً:
«أن أقيد ما «أراه» وما «أحس» به على أكمل وجه وأبسطه».
أى أن يجعل شيئاً ما صادقاً، يتحدى بصدقه تقلبات الزمان، وتغير الأحوال، وهكذا نرى أن هناك أدوات جمالية ثلاث هى: «المكان والحقيقة والمشهد»، إذ استطاع الكاتب أن يبعث الانسجام فيما بينها بحيث يصبح الإحساس بـ «المكان» و«الحقيقة» – حسب تعبير كارلوس بيكر فى كتابه عن همنجواى – جوادين وديعين تحت إمرة الإحساس بالمشهد.
إلا أن هذه المبادئ الجمالية الثلاثة، على خطرها، ليست كافية.
فإذا كانت العقيدة الأولى لدى همنجواى تتمثل فى أن يقول «الحق والصدق»، فإن استخراج الصدق من أى شىء أمر عسير. هو سعى بين مجموعة من الأغاليط التى يقول: «كارلوس بيكر» إنها ثلاث: الأغلوطة العاطفية، واللاعاطفية، والأغلوطة المصورة للحركة.
وعن الأغلوطة العاطفية يورد بيكر فى كتابه مثالاً عن الشاعر تشارلس كنجزلى 1819-1875» الذى كتب فى إحدى قصائده أن بنتاً ماتت على الشاطئ الصخرى، وجاء البحارة بجثتها:
«فجدفوا بها عبر الزبد المتدافع، الزبد القاسى الزاحف».
فانتقده رسكن «1819-1900» بشدة لأن الزبد لا يوصف بالقسوة ولا بالزحف، وأن من يسبغ هذين الوصفين اللذين لا يوصف بهما إلا الكائن الحى، لا بد أنه وقع فى قبضة المشاعر العنيفة التى من شأنها أن تحدث فينا مشاعر مزورة عن الأشياء الخارجية، ذلك لأنها فيض زائد من الشعور، ولأننا عندما تسيطر علينا العاطفة يصعب علينا أن نرى شيئاً فى حقيقته، وبهذا المعنى فإن: «الأغلوطة العاطفية» فى أساسها خطأ فى الإدراك، الأمر الذى يقود بالتداعى المنطقى إلى الخطأ فى التعبير.
- 3 -
الهدف الأساسى، إذن، منذ البدء هو: العلاقة بين ما «يراه» وما «يحس» به.
وهو مبدأ جمالى يسميه المؤلف مبدأ (الإدراك المزدوج)، وهو ما يمارسه كل فرد فينا، حيث تجمع العينان من الرؤية الواحدة صورة واحدة ذات عمق.
والصعوبة هنا تتمثل فى الوقوع على الشىء الحقيقى، الأمر الذى يتطلب من الكاتب أن يستبعد كل المفاهيم والمعانى المقررة سلفاً، وألا يتلق الحكم على الأمور من تجارب غيره من الناس أو الكتاب. أى أن يبدأ بما أسماه بعد ذلك الفرنسى رولان بارت فى كتابه المعروف (نقطة الصفر فى الكتابة).
- 4 -
فى العام 1949 كتب همنجواى يقول:
«إن الحقيقى مصنوع من التجربة والخبز والزيت والملح والخل والسرير والصباح الباكر والليالى والأيام والحر والناس والنساء والكلاب والعربات المحبوبة والدراجات والنجاد والوديان وظهور القاطرات واختفائها فى المنعطفات.. من ذكر القطا وهو يصفق بجناحيه على الخشبة، ورائحة العشب والجلد الذى دُخن حديثاً وصقلية».
فإذا منح الفنان معرفة هذه الأمور وممارستها، وعرف أمثالها مما ليس له اسم، فإن العالم كله يصبح وطنه المألوف.