فى وقت متأخر من ليلة الأحد الماضى ذهبنا إلى الميدان، وتجولنا بين الموجودين، محتجين ومعتصمين، وامتلأنا بالحماسة والبهجة، وأكلنا «تين شوكى»، ثم عدنا وقد اقتربت الساعة من الرابعة صباحًا. فى المساء جلسنا كيما ندلى بدلونا فيما جرى ويجرى، إلا أننى لم أجد ما يمكننى إضافته لكل ما قيل وما يقال، حينئذ تلفتُّ حولى لأجد العالم الثقافى مشغولاً هذه الأيام بمرور خمسين عامًا بالتمام والكمال حين استيقظ الكاتب الأمريكى الأشهر «إرنست همنجواى 1899 – 1966» من نومه ليلة الثانى من يوليو عام 1961 وتناول بندقية صيده، ووضع فوهتها على جبينه أو داخل فمه، وأطلق النار.
قبل انتحاره بعام كان تعرض لأوقات صعبة، فهو فضلاً على سجله العائلى الطافح بالمنتحرين «خمس حالات تقريبًا بدأت بأبيه» إضافة إلى تطوعه فى الحرب العالمية الأولى التى كتب عنها «وداعًا للسلاح 1929» ثم عمله كمراسل فى الحرب الأهلية الإسبانية التى كتب عنها «لمن تدق الأجراس 1940» كما حاز جائزة نوبل عام 1954 عقب إصداره روايته «العجوز والبحر».
ورغم أنه كان، بسبب هذه المشاركات الحربية، قد ورث مجموعة من الإصابات التى تعرض لها فى رأسه وساقيه، إلى حد استخراج أكثر من ثلاثين شظية تناثرت فى جسده كله، رغم ذلك فإن مأزقه القاسى والحقيقى بدأ قبل ذلك بعام: لقد عجز تمامًا عن الكتابة، كما راح يتأسى على رحيل معظم الأصدقاء، ثم تطور الأمر حتى قال مخاطبًا «هوتشنر» الذى وضع عنه كتاب «بابا همنجواى»، والذى أصدرته دار الآداب البيروتية:
«يا هوتش. لم تعد الكلمات تأتى».
وإذا كان همنجواى بنى أسطورته التى ما زالت حية بسبب تجربته الشخصية شديدة الثراء، وبفضل أعماله الكبيرة ومجموعاته القصصية المتميزة «الفائز لا ينال شيئًا، فى عصرنا، ورجال بلا نساء» فإن ما أبقاه حيّا هو ما اعتمده من مبادئ فنية كان لها تأثيرها فى تطوير عمليات التعبير عمومًا.
فهو عندما قال إن: «مهمة الأديب أن يقول الحق».
أو: «إننى لا أعرف إلا ما رأيت».
أو: «إذا لم تكن لديك جغرافية المكان الذى تعمل عليه، فليس لديك شىء على الإطلاق».
أو أن: «جبل الجليد العائم وقور فى حركته، وما هذا الوقار إلا لأن ثمنه فقط فوق الماء».
أو غيرها من الملاحظات، عندما قال ذلك قبل نصف قرن أو يزيد، فإنه كان يتحدث عن أهم المبادئ التى ظل مخلصًاً لها طيلة حياته والتى قام عليها عمله كله وأكسبته تلك القيمة الباقية والتأثير العميق الواسع. وعند مبدأ جبل الجليد هذا نتوقف قليلاً.
ذلك أن أقاصيصه، وهو الذى عالج أدق مشكلات التعبير وتمرس بها، خادعة، لا تنبئنا عن حقيقتها إلا عبر الإحساس بذلك الباطن المختفى تحت سطح الماء. والذى لا يتأتى أبدًا عبر القراءة العابرة غير المدققة، بل يتطلب قدرًا كبيرًا من الجهد، والصبر، والقدرة على مشاركتنا، نحن القراء، فى العملية الإبداعية ذاتها.
القليل الذى نقرأ، عادة، هو هامة النص القائمة فوق سطح الماء، وهى لا تكتسب قيمتها إلا بسبب قوامها المغمور فى الأعماق، وهو قوام موارى، غنى، وملهم.
الكثير الذى لم يكتب، هنا، هو الذى كتب به القليل الذى نقرأ.
والمبدأ: استبعاد كل ما يمكن استبعاده من الوقائع المكتوبة، مادام هذا المستبعد، أمكن له أن يتحول إلى إحساس، إلى طاقة، وزاد، يكتب به القليل الذى نقرأ.
أى أن التجربة فى عمل أدبى لا تكتسب قيمتها مما هو مكتوب فقط، ولكن بما كتب به هذا المكتوب.
وحول بقية مثل هذه المبادئ، قد يكون لنا حديث آخر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة