فى ذكرى رحيله..

"اليوم السابع" ينشر قصة قصيرة لمحمد عبد السلام العمرى

الخميس، 14 يوليو 2011 03:22 م
"اليوم السابع" ينشر قصة قصيرة لمحمد عبد السلام العمرى محمد عبد السلام العمري

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
معابد الأحلام

فزع الأجداد فى مقابرهم عندما علموا ما آل إليه حالنا ، فقد جاءهم فى معابدهم وأهراماتهم ما يثير القلق ، وعندما عرفوا بمدى عبء الأحمال على عقولنا ، والأخرى التى تثقل كواهلنا مزقوا أكفانهم ، انتفضوا وجاءوا ، وجدونا قصاراً عما كانوا يتخيلون ، والنسب الإنسانية للوجوه تغيرت فاستطالت ، وبرزت عظام الأوجه ، ضاقت العيون والأنوف المدببة اتسعت فتحاتها ، كبرت الآذان التى امتلأت بالشعر ، أضحت عظام الوجنات بارزة .

درسوا بتأن كل ما يمت بصلة لحالتنا ، وكان مما يثير حفيظتهم حقيقة هو تجاوز النسبة المئوية المقررة لباقي
الشعوب ، يتحدثون لأنفسهم بصوت عال ، شاهدوا وسجلوا القطيعة بين الناس ، وبين أفراد العائلة الواحدة ، المعاناة الدائمة فى كل مكان ، الألم والإحباط ، فقدان الأمل ، مدارج اليأس المتفاوتة ، الهياكل العظمية المتحركة ، الانسحاب إلى الداخل والانزواء إلى الخرابات المظلمة ، ولم يكن هناك مجال لتساؤلات الحزن والضحكات المنسية .

لاحظوا آثار الدماء والحرائق التي أشعلها إخواننا ، حيث لم يتركوا إلا دماراً فى كل مكان مروا به ، هيأوا بذلك الظروف لازدهار الخرافات ، السحر والشعوذة والشياطين والجان ، ولم يكن من المستساغ أن يتجه شعب بكامله إلى هذه المتاهات باعتبارها الوسيلة الوحيدة للشفاء إلا إذا كان هناك خلل ما .

وفيما كانوا يتابعون حالتنا من معابدهم التى بنوها حديثاً فى أماكن متفرقة من الوطن ، ومن أهراماتهم القديمة ، التى ازدادت بشكل لافت فى المدن والقرى واصلوا تسجيل ملاحظاتهم على هذه الحالة التى عبرت بالتكثيف عن شعب بكامله ، تشبه التى شاهدوها فى كل مكان يذهبون إليه ، أرقتهم الحالة التى وصل إليها حفيدهم ، ساءهم أن يروه حولهم مجموعة من الحفائر ، يجلس فى غرفة معتمة ، أو فى أحد الأماكن المفتوحة ، لا يستدعى الأجداد ، حدث له ما يشبه
الحلم ، لا يشعر بالرعب أو الألم ، واعياً لكل ما يحدث حوله ، يسمع أصواتاً عديدة ، متداخلة ، ليست عالية أو مزعجة ، همهمات ، همسات صادرة عن الأشجار والعتمة ، الأرض والناس ، صوته ، أصوات أخرى تثير ذكريات عن أسماء وأزمان وأمكنة ، واعياً بها طوال حياته ، دون أن يعرف ذلك ،
قادراً على رؤيتها كجملة مطبوعة ، كتبت الآن ، محيت فيما سبق ، :كأنها الأخرى الباهتة في ذكريات الأعوام الماضية .

يتمدد فوق بطانية ، يطير في الهواء ، يلقى إطلالة عميقة على رحاب الأرض والسماء والشمس الأبدية ، يرى الأجداد الذين طاولوا ذرى الشمس والخلود ، أرض مغطاة بألواح الخشب غير الثابتة لمكانه الكبير المتداعى ، حريف الرائحة ، ذي الغبار الرقيق الخاص بالقش الراحل ، ذى الرائحة النشادرية الضعيفة مع ذلك الهجران اللاهث بالكيروسين ، بدت مصابيح الأماكن تتباعد ، فيما كانت الحياة السوداء تضغط ، التنفس الأسود ضاعف البخار ، حيث بدا أنه ليس ألأصوات فحسب ، بل الأجساد المتحركة والنور نفسه قد أصبحا سائلين ، وراحا يلتحمان ببطء فى الليل الذى أضحى ثقيلاً.

يسمعونه من خلال أزيز أفكاره يدعو : أرسل إلينا أحلاماً
سعيدة يا رب ، دعنى أرى بلدى جميلة ، منتصرة دائماً نصراً حقيقياً ، وفى طليعة الأسود الأفريقية ، تستوعب تكنولوجيا المعلومات والحاسب الآلى ، لديها القدرة على فك شفرات المفاعلات النووية غير السلمية ، والصواريخ البالستية العابرة للقارات ، قادرة على انتهاك أسرار C.I.A والبنتاجون.

وضعوه فى جو قبور حلمى لا يقهر ، حتى تصعد أمنياته بسلام محاطة ومزدانة بالأمن والسرية ، حتى ينفذ لبلاده ما
يريد ، مهموماً بها وبمشاكلها ، وبعدم مواكبتها للأحداث الجارية ، وللثورات العلمية المتوالية ، فكر أنه حينما كان
شاباً ، كان يحب العتمة ، والسير والجلوس وحيداً بين الأشجار فى الليل ، ثم أصبحت الأرض ولحاء الأشار أمراً حقيقياً ، متوحشاً ، موحياً ممتلئاً بأنصاف المتع ، والأحوال الغريبة المهلكة.

ينتظر الأحلام ، لا يعرف متى تأتى وبأى أحداث ، من يرسلها، هل هى الملائكة أ م الشياطين؟ كيف يحلم أحلامه الخاصة ، لم تتمكن من اتخاذ قرارها بالانضمام إلى هذا الجانب أو ذاك ، يريد أن يحيدها ، ويبعدها عنهما ، حتى لا تتأثر بالدوافع والأغراض ، لماذا لا تجئ إلا فى جحيم النوم ، فيه تتحرر المشاعر والأحاسيس ، والخبرات من قيود هي الملائكة أم الشياطين .

كيف يحلم أحلامه الخاصة ، لم تتمكن من اتخاذ قرارها بالانضمام إلى هذا الجانب أو ذاك ، يريد أن يحيدها ويبعدها عنهما ، حتى لا تتأثر بالدوافع والأغراض ، لماذا لا تجئ إلا في جحيم النوم ، فيه تتحرر المشاعر والأحاسيس ، والخبرات من قيود جانب المخ الأيسر ، أنت تسبح في الفضاء ، تعيش مع الحيوانات ، تصارع الأمواج ، تتكلم مع أناس لا تعرفهم ، تزور أماكن مجهولة ، هيىء لك فيما سبق أنك زرتها ، أجسامنا تطير في الهواء ، تحول القط الصغير إلى تمساح مفترس ، تتذكر حالة الغيبوبة للترقب الحالم والمجنون ، للموسيقى الصارمة والعنيدة ، المتعمدة ، لا عاطفة فيها ، شأنها شأن التضحية والتوسل والسؤال ، في نظراتك شيء يوحى بالتعصب على نحو بارد وعنيف ، يخالطه بعض الجنون ، يمنع التساؤل والفضول ، تأتيه طوفانات من الصور والأصوات والمشاعر اللامنطقية ، تتحدى كل المفاهيم الواقعية الكامنة ، كعالم مغلف بالغموض والجمال والقسوة في الوقت نفسه ، تأتيه الأحلام داعية إلى تأنيب النفس والضمير ، والنوم الذي يتدنى فيه مستوى النشاط العقلي ، داعية إلى تحريك أفكاره وتحويلها في حرية لتجد بعض الحلول للمشاكل ، وقد جاء الفجر في موعده تماماً ، ضوء النهار ، ذلك المزيج المقلق الوحيد الممتلئ باستيقاظ الطيور الهادئ للتردد والهواء ، فيه تأتي الحلم كعلاج كبير ، يخلصه من الأفكار والخبرات المؤلمة والمحزنة ، ينطلق صافياً ليكوّن ويرتب أحلامه ، التي فيها الخلاص لبلده ، وتحقيق أمنياته .

أعد الأجداد بطريقة عصرية معملاً للنوم ، وضعوه تحت ملاحظة ومراقبة أجهزة رسم المخ والقلب ، والكاميرات ، يعرفون أن النائم لا يستطيع أن يدلي بمعلومات مفيدة عن حالته أو مشاعره .

انتابه النعاس ، رأوا هدوء حركة العينين ، ثم قلة حركتها ، ضاقت الحدقات ، قل الانتباه ، انسحب الوعي لتحل محله الخيالات ، مرت خمس دقائق ، بدأ النوم خفيفاً ، وعندما لاحظوا بعد نصف ساعة انخفاض درجة حرارة الجسم ، تأكدوا أنه يغط في النوم ، شاهدوا انخفاض ضغط الدم ، قلة عدد ضربات القلب وحركة التنفس ، كما بين رسم المخ تغييراً في الموجات الكهربائية من الحركة السريعة إلى الهدوء والبطء .

جاء حلمه بعد أن أخذ قسطاً وافراً من الراحة والاستجمام للتخلص من أغلال المنطق الصارم لقوانين الواقع والعادات ، والتقاليد والرغبات والمكبوتة ، وكان قد وصل إلى المرحلة التي عليه أن يتحمل الإهانات فيها ، فبدت له رائحة التجفف الخاصة بالترهل المفرط والثياب القذرة ، كأنها نذير بالقبر ، مع انحدار عديم الحيوية ملىء بالأشجار الميتة ، والشهوات الجافة بالسباحة على نحو ناعم سريع وهادئ .

يقضى النهار كله في البلدة ، في الساحة ، قذراً ، غير ثرثار ، بذلك التعبير الغاضب ، الصاد في العينين الذي ظنه الناس بوادر للجنون ، تلك الخاصية المتميزة بعنف مستهلك أشبه بالرائحة الكريهة ، بالنكهة ، ذلك التعصب الأشبه بجمرة خابية أو مطفأة ، بنوع من الحماسة الدينية القوية المختلطة بقناعة عنيفة ، وجرأة جسدية ، وبدت عظامه الهشة العتيقة ، وعضلاته الخيطية تحمل الجنون المرعب ، عيناه مفتوحتان ، فارغتان تماماً .

كللت هاماتنا في تلك الآونة تيجان من القش ، شاهدوا ملابسنا الممزقة ، أجسادنا العارية ، أقفيتنا التي طالت ، شعر رءوسنا الذي تلبد ، واتسخ ، واستطال وتدور ، والأتربة العالقة به ، الوساخة التي ترسبت على أجسادنا ، السناج العالق برقابنا ، لعابنا يسيل ، والهذيان مستمر ينبئ عن استسلام وتراخ ، عيوننا زائغة ومحدقة ، ورائحتنا لا تطاق ، حركتنا المتناقضة المخيفة في حالات كثيرة ، ولم يكن من اللائق والحال هكذا طرح تساؤل عن عدم كفاءتنا ، ونوعية إنتاجنا .

ننظر إلى الخلف دائماً خوفاً من أن يتبعنا أحد ، تدور رؤوسنا ، أمخاخنا هلامية غير ثابتة في أماكنها ، غير
متوازنة ، في حالة صفير دائم ووشيش ، تنتابنا الدوخة
والدوار ، نحس إحساساً خاصاً بالفراغ والكآبة ، والمشاعر الصاخبة ، الهائجة والعاصفة ، وكانت السمة الرئيسية المشتركة في الجميع هي أن غبناً ما وقع على كل واحد منا على حدة ، وبشكل مختلف عن الآخر .

أثار انتباههم هذه الرغبة العارمة لكل أفراد الشعب في اقتناء مرآة لكل واحد على حدة ، يأخذونها أينما ذهبوا ، خلت منها كل محلات الزجاج ، ازداد إنتاج المصانع عن حد طاقته ، ومن كثرة ضغوط العمل أفرزت خطوط الإنتاج مرايا غير مطابقة للمواصفات ، وخطوط أخرى انفجرت وتفحمت ، يكثرون من التحديق فيها في الشوارع الرئيسية ، وعند
تقاطعها ، وفي إشارات المرور ، ويعكسون أشعة الشمس في عيون النساء ، ينظرون ببلاهة شاعرين بغرابة كل الأشياء حولهم .

وفي رؤيا أخرى يجلس بجوار أحد الحوائط ، تنز مواسير الصرف مياهاً قذرة من الشروخ المتعددة فيها ، غير واع أو مهتم بالصراصير الكثيرة التي تجوب جلبابه الممزق على اللحم مباشرة ، زاحفة إلى كل مكان في جسده ، يفتح فمه كاشف عن أسنان متباعدة ، عليها طبقة كلسية جيرية تميل إلى الاخضرار ، تمرح جماعات الذباب داخله وخارجه ، يفتح يده المجعدة والناشفة ، أعلى رأسه ، مغمضاً عينين ملأهما الرمد الصديدي ، فتورمتا وانتفختا ، وسال منهما قيح وصديد .

تختلط الأزمنة والأمكنة ليجد أن دورات مياه الأجداد تصرف في ماسورة نحاسية قطرها متر تقريباً ، تمتد إلى أربعمائة متر بعيداً عن المنزل ، وكانت حماماتهم مبطنة برقائق معدنية ، كما كانت مجهزة ببالوعة للصرف لها غطاء بسلسلة ، تتحمل الاستخدامات الكثيرة والمتوالية ، إذ كانوا – الأجداد – على درجة عالية من النظافة ، يستحمون في اليوم الواحد ثلاث مرات ، فكانوا أكثر شفافية من الضوء ، اخترقوا السماوات ، ودعموا ما يحتاجه وجودهم ، وشقوا طرقهم المختلفة ، وكل واحد على حدة يخلق ضوءه ، وحظه ، لقد شقوا الأرض متتبعين خطوات أقدامهم ، أرسلوا ترانيم مديح إلى الشعب عندما يبزغ في الأفق ، وعندما يظهر على أرض الحياة .

ينظرون إليه بقلب مفعم بالشفقة والازدراء ، خافوا أن يتركوه وحده ، هذه اللحظة شاقة ، وقد يضطرب عقلك ، أخذوه من يده ، قام تلقائياً دون أي مقاومة أو تساؤلات ، قالوا : لا تخش شيئاً ، الموت كالأحلام بوابة تفتح إلى الخلود ، قال : أرى سحابة رقيقة تعبر خيالي ، قالوا : يجب أن تظهر للملأ قليلاً ، أخرج من باب دارك ، ظلل عينيك من نور الشمس ، وحدق في أرجاء العالم لترى ما يدور فيه ، يتساءل بينه وبين نفسه كيف ؟ شاهدوا أكوام القمامة الجالس عليها ، تلاعبه القطط ، تبول عليه الكلاب ، كان كأقرانه قد تحول إلى حطام بشري ، يشاهدونهم ، يرثون لحالهم ، يقيمون الصلاة في المعابد .

ما يشغل الأجداد حقيقة هو كيفية إيجاد وسيلة جماعية لعلاجهم ، إنهم يرغبون في تجاوز الطفرات العلمية الهائلة الحادثة الآن في طرق العلاج الحديثة ، والتي يفصل بينها وبين طرقهم العلاجية آلاف السنين ، كيف يمكن تضييق الفجوة تلك ، وكذلك كيفية التغلب على الخداعات الإدراكية الخيالية التي ينادي بها المحدثون ، وتجاوز شكوك الاكتئابيين السوداويين ، ومخاوفهم التي لا أساس لها أحياناً .

لقد حددوا أن هذه الانطباعات تكمن في المزاج الشخصي وتغذيها عاداته ، رغبوا في القبض على لحظة الرؤى والسحر الدالة على قوة الخيال بالنسبة للعقول المظلمة التي يمتلكها الدهماء ، وتساءلوا عن كيفية مقاومة تحيزات العقل المنقبض الذي يعتقد في صحة وواقعية كل كائن خرافي يتمثله أحفادهم ، وكان ينتاب كل واحد منا على حدة هاجس هجوم الكائنات الخرافية التي تطول هاماتها النخيل ، والتي لها حراشف وأقحف وجريد وسباط البلح ، تلك التي يفتح في جذوعها فتحات تتساوى ارتفاعا ، بحيث تستطيع النخلة اجتذاب أي واحد يقترب منها ، وما كان مرعباً حقاً هو قدوم كابوسية النخل والبناء ، كان مجئ مثل هذه الكائنات يثير الحذر فنختفى من أنفسنا ، يتملكنا الجزع والخوف الذي نقوم بتكوينه ، وفي مواجهة مثل هذه الخرافات يبحثون في معاملهم ، ومعاجمهم عن علاج جماعي ناجح لنا .

أرادوا أن يصلوا إلى حقيقة يعرفونها ، ولا يستطيعون تحديدها ، يرغبون في تشخيص مشترك لكل الحالات المختلفة ، وكان السؤال : كيف يصلون إلى هذا الخيط المشترك في جميع الحالات ، وضعوا الحالات التي اختاروها بعناية تحت
اختبار محكم ، لاحظوا على مجموعة أنها تكون بالليل وديعة ومسالمة ، أما بالنهار فتكون شرسة محبطة وعدوانية
ومراوغة ، يتخيلون رؤية أشخاص وأشياء وحيوانات ، وظواهر ليست موجودة ، يعانون من الآخرين الذين يحصلون على كل شيء بينما هذه المجموعة لا تحصل على أي شيء .

يعانون من الآخرين الذين ينتابهم الاكتئاب والحزن والخمول واضطراب الحركة ، وتفكك الأحلام والتفكير والاصطدام بالآخرين وتجاهلهم ، يتخيلون حدوث أشياء لم تحدث ، انتاب الجميع نوبات عنيفة من الذهول والرعب ، يشاهدون الدماء تزدحم وتندفع قوية في رؤوسهم فيطلقون صرخاتهم من بين أسنانهم ، حددوا لهذه الطريقة فصد الدماء من الرأس بالمشارط ، تنتابهم مزيج من الهلاوس البصرية والسمعية والهذاءات والخدع الإدراكية ، واضطراب التفكير والوجدان .

وفي أوقات أخرى لاحظوا استبداد الخيال الجماعي بعامة الناس ، فأحدث إثر ذلك عاهات مستديمة ، وغرق الكثير منهم في النيل ، وأزالوا من مخيلتهم كل العمائر العالية والعشوائية والقبيحة بعد أن قذفوا بأنفسهم من شرفاتها ، لجأوا إلى مترو الأنفاق خوفاً من الزحام والتلوث ، أحسوا بتناقض وجداني جماعي في الميول والنزعات ، لم يستطيعوا التعبير عن السرور والألم أو الإحساس بالفرح والمعاناة ، أضحوا ذوى إرادات مضطربة ، فقدنا القدرة على المبادأة ، نقص أو كاد يمحي نشاطنا ، واهتماماتنا ، نسرع دائماً خارجين داخلين دون سبب مفهوم ، ثم لاحظوا أنهم يصرخون بالليل بأصوات عالية .

وعلى مدى فترة طويلة عانوا من تصرفاتنا
الكثير ، لكنهم لم يفقدوا الأمل في علاجنا ، لذا لجأوا إلى اكتشافاتهم الأولى ، فبدأوا في إنشاء معابد الأحلام للشفاء ، واستحدثوا فريق مفسري الأحلام ، أضحت مراكز وملاجيء جماعية ، يصطفون في طوابير طويلة لا تتقطع ، فيما كان الكهنة لا يملون من وصف العلاج للمرض ، ينصحون بالراحة وتناول الأدوية ، في سياق اهتماماتهم اكتشفوا أن النساء لم تلد منذ عدة سنوات ، وأن الرجال أصيبوا بالعنة والعجز الجنسي .

كانوا اطلعوا على أساليب العلاج الحديثة واستبعدوها ، يريدون أحفاداً أحراراً جدداً ، غير مستسلمين للذل والقمع والصدمات الكهربائية ، استبعدوا اللجوء إلى الأساليب العنيفة بالصدمات على أمل إيقاظهم أو إفاقتهم من أحلامهم ، ومن ثم علاجهم ، وكانت الصدمة الكهربائية و غيرها واحدة فقط من الوسائل المتوافرة في أيدي الأطباء لعلاج الخدع الإدراكية ، والذين يعولون على أهمية المحاولات المتكررة والمعادة لمواجهة الهلاوس .

عرفوا أن الأنواع المختلفة للعلاج تعتمد على إحداث الفزع والصدمة والرعب ، وكانت نتيجتها إحداث ألم جسمي أو قلق زائد ، من أجل إعاقة الجنون أو إيقافه ، ومن ثم يحاولون إعطاء الأفكار الواضحة المتميزة مجرى أو ممراً آخر تستطيع أن تجرى فيه .

أدركوا أنه يمكنهم أن يعارضوا إحساساً من خلال إحساس أخر ، حيث أن الإحساس الواضح المتميز يقوم بمواجهة الآخر الذي يعوقه ، وسوف يخضع الإحساس السابق للإحساس اللاحق ، ويوقف سلسلة الشياطين الخيالية ، لذا تشبثوا بمعابد الأحلام ، طوروا الفكرة ، وبدأوا يدخلون إليها من هدأوا بعد أن تناولوا الأدوية والعقاقير ، وقد تمثلت الإجراءات الخاصة بالأحلام فيما يسمى بعمليات الاختمار ، تلك التي كانوا يدخلون المريض إليها لممارسة النوم أو قضاء الليل بأي شكل في منطقة قاعة المعبد المقدسة ، يأملون للمريض أن يتلقى رسالة محاطة بهالة من النور أو يهبط عليه الوحي .

لاحظوا أيضاً أننا نتزاحم كعادتنا على معابد أحلام
معينة ، حسب شهرة آلهتها ، باعتبارها قادرة على شفاء المرض ، كانوا قد تأكدوا من نظرية الأحلام الإيجابية ، حيث بدا دورها يؤتي ثماراً ناجحة ، غير مسبوقة .

في مذبح معبد الأحلام الضخم يتربع الكاهن المصري ، يتصاعد دخان البخور المعطر الإلهي من فتحات وممرات سرية ، تلائم كل طقس على حدة ، في درجة الحرارة المتفق عليها ، حتى تتصاعد الأحلام وتتكاثر ، الكاهن حليق الذقن والرأس ، نافذ العينين والبصيرة ، ممشوق القوام كعود
أبنوس ، على كتفيه بردة رجال الدين في قدس الأقداس الذي لا تطؤه إلا قدم الإله أو الملك أو الكاهن الأعظم ، سلام عليك يا إخناتون ، الجلال لك يا من أتيت مثل خالق الآلهة ، إنك تشرق وتضيء يا سيد ملوك الشمال والجنوب ، يا رب التاج الأبيض النبيل ، يا مطمئن النفوس وباعث الأحلام ، ابعث إليه حلماً كي يهدئه ، يا من تخفى في الظلمات مجيئك لتنتشر في الرءوس أحلامك ، فتحمل الآسي والظلم عن كاهل مرضاك ، أنت سيد الأسماك الصغيرة التي تقلق أعظم شعوب الأرض ، مستقبلاً مرضاه الذين يدخلهم عليه كاهن آخر ، يدخل في كل معبد على حدة ، أماكن هادئة ، يبعد المريض عن الآخر بمسافات
متباعدة ، إضاءات خافتة ، موسيقى فرعونية ناعمة ، يقوم بتحريك وتنشيط خيالهم ، هؤلاء الذين يكونون قابلين للإيحاء من خلال إحصاء وسرد معجزات الشفاء الماضية التي قام بها الإله ، كذلك من خلال بعض الأدوية الناجحة ، يتلو بعض الرقى والتعاويذ السحرية المناسبة التي قد تساعد في إحداث حالة استسلام واسترخاء في العقل ، ينصح المريض بمحاولة الدخول في حالة الاختمار أو نوم المعبد ، أثناء الليل يأخذ الكاهن هيئة الإله ويظهر أمام المريض الذي إذا استيقظ تعطي له نصائح مهمة .

وقبل التأكد من نوم المريض يقدم قسمه حتى تأتي أحلامه صادقة وصافية ، يقول ليست هناك خطيئة خاصة عالقة بي ، لم أقل كذباً ، ولا فعلت شيئاً بقلب غاش ، قلبي نقي ، لم أرتكب خطيئة ضد إله أو آلهة ، يحرقون له البخور في المبخرة المباركة ، حتى يستطيع أن يقدم تحية الوداع الأخير ، بجواره صناديق بها أزهار وقوارير ، يتلون خدمة الأحلام من لفافة بردى كأغاني التمجيد والمديح والبزوغ ببلاده العظيمة ، وعند التأكد من نومه يجعلونه يحلم ، فقد فتحت قنوات في رأسه تسهل له مرور الأحلام ، يتوسلون إلى الإله قائلين ابعث إليه بحلم مطمئن ، ومن خلال أحلامه يبحثون عن وسائل شفائه ، كان الحلم ذاته أحد الوسائل للتخفيف من أعباء الحياة وهمومها ، يستطيع الإنسان بعد مروره بخبرتها أن يعود ويواصل الحياة بشكل أفضل كما يتمنون .

أثناء نومه يعطيه تعليمات شفاء دقيقة عن العلاج الذي يجب أن يتبع ، وفي حالات أخرى تعطي إرشادات غامضة أثناء الأحلام الطبيعية التي يكون الشخص خلالها قد أغمى عليه بشكل مصطنع ، ثم تفسر هذه الإرشادات فيما بعد بواسطة الكاهن ومفسري الأحلام الجدد .

وفي بعض الحالات الانفعالية التي ستثيرها قدسية المكان والطقوس المؤثرة فإن حالة الحساسية الشديدة تستثار بشكل جيد ، حيث يكون المريض قادراً على الرؤية والسماع والشعور بأشياء لا يستطيع أن يدكها في الأوقات العادية ، حيث ترجع هذه الحالة إلى رهافة الحواس ، وهي شاهد على قبول الشخص للإيحاءات والتوجهات نحو الشفاء .

وكان علينا أن نشاهد ونتخيل كيف كانت تلك الليالي الطويلة الصامتة تشهد طوفانات من النساء والرجال الذين يتألمون ويتأملون ، يبتهلون في هدوء إلى الإله الواحد إخناتون أو أمحتب العظيم المهندس المعماري للحضارة الأبدية ، والذي تعلقت به آمالهم وأفئدتهم .

ولم يتوقفوا عن ذلك . حيث تطورت وصفات طبية وتعاويذ للإجراءات الشفائية ، كي تتحرر الروح من قيود الجسد خلال النوم ، ليسهل اتصالها مع الإله ، إذ أنه يمكن التخفيف تحت تأثير الإيحاء .

تتوالى التجارب والأحداث والنتائج ، يخايلهم نجاحهم أحياناً بمساعدة ورغبة أكيدة في الشفاء ، وإحباطاتهم أحياناً أخرى ، يصرون على أن هناك أملاً ما مازال قائماً ، يساعدهم الأحفاد أيضاً في تجسيد الآمال . تبرق وتضيء وتظلم تلك المحاولات ، وما بين محاولة ومحاولة كانت تجري محاولات أخرى .
معابد الأحلام






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة