المستشفى بجوها الهادئ الرخيم، إلا أن هناك على بعد قد يقرب الألف كيلومتر ربما يزيد أو يقل غليان واحتدام كان لزاما أن يختفى صوته عن المستشفى الذى يقبع فيه وإلا لاختفت كل الأدلة التى تدينه أو قد يرتفع فجأة إلى مقام شهيد إن نالته أيدى عطشى فقط للانتقام.
غرفة منفردة يبيت فيها وحيدا لا يتحدث إلى أحد بل لا يحدثه أحد وذات نوافذ لا ترى النور، وجهاز تكييف يعمل فى هدوء منتظم يهدهد من انفعالاته حتى يمكنه الإجابة عن أسئلة المحقق الذى ينتظر موعدا مناسبا للدخول إليه بعد تعدد شكواه أو ادعائه بالتمارض هو البطل الذى كان بطلا عاشقا للرياضة والحركة والإمساك بمضرب الأسكواش عشقه الرياضى الوحيد ونعود ببصرنا إلى الغرفة وجوها الذى يخفى الكثير وستائر داكنة اللون تسدل على النوافذ، بينما يكتفى فقط بإضاءة غير مباشرة تبعث ضوءا أبيض خافتا وحاملا معدنيا يحمل حقنة الجلوكوز، أما السرير فكأنما لم يقربه بالمرة الغطاء والملاءة البيضاء والوسادات مازالت وكأنها معدة لتوها لاستقبال هذا المريض المعتقل، وحرس مدجج بالسلاح لا يراه الرئيس المريض واقفا خارج الغرفة، كأنه فى حراسة صاروخ نووى قابل للانطلاق فى أى وقت!!
يجلس على كرسى متحرك وثير نوعا ما أعد خصيصا له فى الغرفة وقد رفض الرقود حتى على السرير، رغما عن نصح الأطباء بينما يرتدى روب أسمر قاتما فوق بيجامة لا يرى لونها ويرى منه بصعوبة عينان زائغتان تلمح فيهما على الفور حيرة لا تتوقف عن السؤال لكنها لا تنطق، مع وجه شاحب مائل للاصفرار.
وفى أقصى الغرفة نموذج لطائرة بوينج تحمل شعار مصر للطيران وقد تسمرت عيناه على الطائرة كأنه يسترجع فى نفسه تاريخا طويلا طويـلا وبينما نظره لازال محلقا مع الطائرة يدخل المحقق شاب فى منتصف الثلاثينات وسيم الطلعة يتميز بصلعة خفيفة فى مفرقه ربما كان يحبو حين تولى الرئيس الحكم! يدخل ومعه اثنان من مساعديه إلى الغرفة لم يشعر الرئيس بهما مطلقا كأنه لم يسمع حتى صوت الباب.. تقدم منه المحقق الشاب بأدب وهو نفسه لايصدق أنه الآن يبدأ التحقيق مع الرئيس أو الذى كان رئيسا، إلا أنه أحس رباطة الجأش حين رد عليه الرئيس التحية بمجرد إيماءة، وتنفس المحقق الصعداء وعاد يستشير مساعديه عن المكتوب فى أوراق التحقيق السؤال الأول والذى يليه وهكذا ثم بدأ المحقق سؤاله:
ـ ماذا تقول فيما حدث يوم 28 يناير؟!!
نظر إليه الرئيس برهة ثم عاد ينظر لاحقا إلى نموذج الطائرة بشدة، ربما لا يود النظر فى وجه المحقق حتى لا تقع عيناه على عينه، ويبتلع ريقه بصعوبة ورغم ما عرف عن صحته الرياضية من قبل لكن ما من أحد يقاوم تجاعيد الوجه لسنوات والتى ازدادت وضوحا وكأن نسيجها اختلطت خيوطه مع بعضها ثم عاد يريد الإجابة على سؤال المحقق فقال:
يوم 28 يناير أنا كنت فى مكتبى كالعادة وجات لى اتصالات كثيرة من الداخلية، فوجئت باللى حصل،0 وفهمت من حبيب إن الحالة عبارة عن شوية مظاهرات بسيطة وها تنتهى فى الحال، بعدها عرفت إن الحالة متأزمة وتأزمت أكثر لما كلمنى حبيب قال أنا هاستخدم القوة أكثر.. ساعتها... ساعتها.. توقف الرئيس فجـأة عن الاسترسال فى الإجابة ولم تتوقف عيناه عن النظر إلى الطائرة النموذج، التى لم يفارق نظره إليها لحظة وكأنها تشده إلى ماض قديم لا يمكنه حتى صرف النظر عنه، ربما تمنى فى نفسه أن تصبح هذه الطائرة حقيقية ليصعد إليها وتخفف عنه وطأة ما هو فيه.
أحس المحقق وكأن الرئيس يحاول أن يأخذ نفسه لكن بصعوبة هذه المرة وقد تصبب العرق من جبينه بكثرة، فقام المحقق من مكانه محاولا استدعاء الأطباء شعر الحرس الخارجى للغرفة بالقلق فوضعا سلاحيهما أمام المحقق الذى طلب فى عجــالة الطبيب أى طبيب.
هرع إلى غرفة الرئيس فى الحال جمع من الأطباء وليس طبيبا واحدا، كان من بينهم طبيب ملتح هو من اقترب من الرئيس وحاول أن يضع سماعته إلى صدره وبدى الرئيس فجأة عصبيا ضاربا بيده سماعة الطبيب وحامل حقنة الجلوكوز ومطلقا صوتا بعصبية شديدة:
ـ أوعـى انت كمــان.. ابعد توقف كونسلتو الأطباء قليلا عن الاقتراب منه ولم يتقدم أحد سوى أنهم تكلموا بصوت واحد ليطمئنوه، وتحدثوا مع المحقق هل كانت هناك أسئلة مستفزة هل؟ هل؟ أجاب المحقق بثقة القاضى:
لا شىء.. لا شىء أبدا أسئلة عادية مافيش استفزاز ثم عاد الرئيس إلى كرسيه هادئا يحاول أن يسترد ثباته كما كان، بينما الأطباء يعيدون فى الحال تركيب الحقنة الجلوكوز التى أطاح بكاملها إلى الأرض.
مرت لحظات قلق وتوتر عبأت المكان وكأنه دخان ملأ الغرفة كلها، ولم يسعف جهاز التكييف أو فازة الزهور الوحيدة أن تعكس حتى شيئا من الاطمئنان.
وعاد المحقق بثبات أكثر وأعاد السؤال نفسـه:
ماذا تقول عما حدث يوم 28 يناير؟؟ فأجاب الرئيس بحدة وكأنه لم يفقد توتره بعد:
أنا مش جاوبت على السؤال ده قبل كده.. قلت لكم ميت مرة إجابته مع حبيب مش معايا مش معايا.... وكرر النفى أكثر من مرة. فى هذه اللحظات بدى للمحقق أن ينصرف ومساعدوه ليعودوا فى وقت آخر مناسب، وكان قرار تأجيل التحقيق لليوم التالى، وبينما المحقق ومساعدوه يستعدون للخروج يتحرك الرئيس بكرسيه المتحرك ببطء نحو الطائرة النموذج محاولا العبث بهـا محاولا أن يحركها بأصابعه أو يفتح بابها وبعد يأس من تحريك الطائرة توجه إلى النافذة بكرسيه المتحرك ليفتح الستارة الثقيلة التى تكسوها شيئا فشيئا.
التقت عينه والشمس فى أفق المغيب ويحاول بصعوبة أن يشهد مغربها الجميل فكم كان يسترعيه هذا المشهد الحانى الرقيق، خاصة حينما تتدثر بين جبال شرم الشيخ الشامخة الأبية ذات اللون البنى الجميل، لكن عربات الجيش المسلحة المنتشرة والمحيطة بالمستشفى والمكان لا تكاد تمنحه فرصة الاستمتاع بهذا المشهد الطبيعى الخلاب، حيث حجبت معها خط الأفق البعيد، لحظات واختفت الشمس ولا يعرف أهى اختفت بين عربات الجيش الثقيلة أم بين الجبال؟! وقد كان مشهدا أليفا يروق إليه كل يوم فقط قبل شهور قليلة.
