روى الزعيم الهندى نهرو فى كتابه (رسائل إلى ابنتى أنديرا) ونقلا عن حكيم صينى زار الهند أنه شاهد رجلا يطوف بالقرى مرتديا حزاما من النحاس فوق بطنه وواضعا فوق رأسه مشعلا مضيئا، فإذا سئل عن سبب تجوله بهذه الهيئة الغريبة قال: إن عقلى عظيم إلى درجة أخشى منها أن تنفجر بطنى من المعرفة، إذا لم أرتد هذا الحزام، أما المشعل فإنى أضعه فوق رأسى لأبدد به ظلام الجهل.
تذكرت هذه الحكاية التى قرأتها ذات يوم فى كتاب (صديقى لا تأكل نفسك) للأستاذ عبد الوهاب مطاوع رحمه الله، كلما شاهدت برنامجا حواريا من البرامج التى تتحفنا بها اليوم القنوات الفضائية أو برنامجا تحليليا لمباريات كرة القدم أو قرأت تحليلا فى بعض الصحف لما يحدث فى مصر من أحداث.
ترى أشخاصا يعتقدون أن بطونهم سوف تنفجر من فرط المعرفة أو من عظمة شأنهم التى لا يعترف بها أحد لأنهم مغبونون وغير مقدرين فى أوساطهم الجاهلية.
وإنك ترى الواحد من هؤلاء يكتب عدة مقالات، فيحسب نفسه من قادة الفكر، أو تراه يحسن بضعة أعمال فيزعم أنه من عمالقة ساسة العالم، فإذا اطلعت أو استمعت إلى كلامهم أو حديثهم وجدته خواء كصوت الطبل الأجوف، لا قيمة له ولا معنى، وما يدل إلا على سذاجة وسطحية قاتلة، فهم يتوهمون أن نصيبا قليلا من المعرفة والخبرة كاف فى الترشيح لقيادة الجماهير والصدارة بين الناس، ولقد نبهنا الحكيم لقمان فى حكمة بليغة رائعة حذرنا فيها من الاغترار بالمظهر البراق الخادع دون الالتفات للجوهر وذلك يوم جلس على حقل قمح فرأى سنابل قائمة وأخرى منحنية فتحسس هذه وتلك فإذا بالقائمة فارغة من الحب والأخرى ممتلئة فيقول: كم من أناس يشمخون بأنوفهم وهم فارغون وكم من أناس أحنتهم المعرفة.
وهناك فرق بين هؤلاء والمثقفين الحقيقيين والفلاسفة والعلماء الذين عرفوا الكثير وظلوا إلى آخر أيامهم ظمأى إلى المعرفة يتساءلون عن معانى الأشياء ويشكون فى صحة ما عرفوا أو يطلبون اليقين بلا جدوى.
فهذا سقراط العظيم يقول: أعرف شيئا واحدا هو أننى لا أعرف شيئا،
والإمام أبو حنيفة النعمان سئل مرة: هذا الذى تفتى به أهو الحق الذى لاشك فيه فقال: والله لا أدرى لعله الباطل الذى لاشك فيه.
والإمام الشافعى سئل عن مسألة فى الفقه فسكت فقيل له: ألا تجيب رحمك الله؟ فقال والله لا أجيب حتى أعرف هل الفضل فى سكوتى أم فى جوابى.
فعليك من اليوم إذا شاهدت أحدا من الذين يتصدرون المشهد السياسى أو الإعلامى أو الدعوى، يسهب فى التصريحات والفتوى ويتناول أمورا ليست ذات بال أو أهمية، ويطلق الآراء والأفكار البعيدة كل البعد عن الواقع أو التى على الأقل لا تناسب المرحلة أو الظروف الراهنة أو قرأت له رأيا أو سمعت له هتافا يدعو به لأفكار ضحلة يشق بها الصف ويمزق بها الشمل فأنزل يدك قليلا إلى حزامك وتحسسه بأصابعك لترى أمن جلد هو أم نحاس فقد يذكرك ذلك فجأة بتلك الهيئة المضحكة التى يبدو فيها من يعتقدون خطأ أنهم وحدهم الذين يعرفون دائما ما لا يعرفه الآخرون.
وتذكر قول الشاعر:
إن فى الناس أوجها لامعات تملأ العين زهرة ورواء
ويراها البصير صورة زهر لم تهبها الحياة عطرا وماء
