بكل ألوان الطيف السياسى والشعبى, كان يموج ميدان التحرير فى جمعة التطهير والقصاص, أو جمعة الثورة أولا, أو جمعة تحديد المصير, وأيا كان الاسم فهى جمعة تُضم للكثير من الجمع الماضية التى تحاول تثبيت طريق مبادئ الثورة، والمطالب التى نادت بها ولم تتحقق حتى الآن .. فماذا بعد وإلى أين تتجه البوصلة؟
بطء العدالة أثار الكثير من علامات الاستفهام, وعجلت هذه التساؤلات من تصاعد حدة التذمر والانتقاد الموجه للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والمشير، بالإضافة إلى أحكام القضاء الأخيرة , وإذا كانت هذه الانتقادات كانت توجه فى الماضى على استحياء , فقد بدأت تأخذ طريقها نحو الانتقاد العلنى, ذلك على الرغم من تمسك المتظاهرين حتى اللحظة بشعار" الشعب والجيش إيد واحدة"!
والتمسك بنزاهة القضاء الذى لا تعجب المتظاهرين أحكامه, وبالذات أحكام البراءة فى بعض القضايا التى صدرت مؤخرا بحق وزراء ورجال أعمال وكانت صادمة للكثيرين.
كرنفال الميدان عج بالمطالبات فى جمعة الثورة أولا , وتحول فى نهاية يوم زاخر بالأحداث إلى اتخاذ قرار بالاعتصام المفتوح، إلى أن تكتمل مطالب الثورة, بمحاكمات عادلة لقتلة الشهداء, ومن عاثوا فى الأرض فسادا طوال السنوات الماضية, فبات من الصعب اجتثاث فسادهم من جذوره الذى ضرب فى نخاع الحياة السياسية والمجتمعية.
وبينما يحتد ويتصاعد سقف المطالب فى ميدان التحرير إلى الحد الذى وصل بالمطالبة بإقالة حكومة عصام شرف, وتعيين وزير داخلية مدنى وإعادة هيكلة وزارة الداخلية, وإيقاف كل الضباط المتهمين بقتل الشهداء والتحفظ عليهم , بالإضافة إلى محاكمة علنية وعادلة للعادلى بحضور أسر الشهداء, فقد أدهشنى كثيرا حوارا أفردته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية تم إجراؤه مع المحامى فريد الديب - الذى يترافع عن الرئيس السابق وأسرته , والعادلى وزكريا عزمى – حينما قال بضمير مرتاح وقناعة راسخة , بأن العادلى لم يطلق رصاصة واحدة حية على المتظاهرين, وأنه استخدم قنابل مسيلة للدموع أو صوت , وهى أسلحة تستخدم من قوات الأمن فى العالم لفض الشغب , وزاد بأن العادلى هو من طلب من الرئيس مبارك نزول الجيش, لأن قواته انفرط عقدها دون سلاح , وأضاف الديب بأن العادلى قال فى التحقيقات إنه لو كان عنده قرار بإطلاق النار على المتظاهرين فى ميدان التحرير الذى كان يقارب عدد المتظاهرين فيه 3 ملايين مصرى يوم الجمعة 28 يناير , فهذا يعنى ببساطة أنه لو فتح 1000 عسكرى النيران عليهم بشكل عشوائى, فإنه كان ما لايقل عن 200 ألف إلى 300 ألف متظاهر قد قتلوا !!
(لا تعليق), واعتبر الديب موكله زكريا عزمى برىء مما نسب إليه أيضا, غير أن قرار التحفظ عليه يأتى فى إطار تهدئة الرأى العام والمحافظة على حياته, ومن هذا المنطلق ألغت المحكمة قرار الافراج؟!
أما ما قيل حول ملف التوريث , فهو لايعدو كونه مجرد شائعات, كان يروج لها المحيطون بمبارك وابنه جمال من أجل الاستفادة منهما بأكبر قدر ممكن , وأن جمال مبارك كرر له مرارا أنه لم يكن يريد حكم مصر على الإطلاق ؟! وذهب لأكثر من ذلك واصفا وضع جمال القانونى بأنه مجرد" جنحة فى القانون "! وتحدى الديب أى شخص فى العالم يأتى بورقة تثبت أن الرئيس السابق يمتلك دولارا واحدا أو عقارا أو منقولا خارج مصر ؟ كما لا يوجد مستند أو شاهد واحد ضد زوجته سوزان ثابت وأنها ليست متهمة فى أى شىء ؟!
قناعات فريد الديب ربما تكون مشروعة كونه محامى دفاع المتهمين, غير أن المغالطات الواضحة لدفن الحقائق أمر مرفوض ولا يقبله أحد يحترم عقله, وإلا كيف تم الكشف عن أرصدة الرئيس السابق السرية فى سويسرا وبريطانيا وأمريكا ومن جهات رسمية لا تحتمل الكذب أو التأويل , ثم هذا الحراك السياسى الطويل الذى امتد لسنوات من الجدل العاصف فى الساحة السياسية المصرية الرافضة للتوريث ,هل كان مجرد وهم سياسى لدى النخب السياسية فأرادت أن تشغل به وقت فراغها الطويل على اعتبار أنها عاطلة ولا قيمة لها ؟ وإذا كان العادلى برىء من دم الشهداء باعتبار أن العدد كان لابد أن يتجاوز المائتى ألف شهيد ! فلا أعتقد أنه فى تاريخ ثورات الشعوب تستطيع إرادة القمع والبطش الصمود أو التغلب على إرادة الشعب وعدالة مطالبه مهما بلغ حجم العنف أو قوة التنكيل , الشعب الذى اختار وقال كلمته , وإلا فما قيمة مايحدث فى ميدان التحرير الآن ؟
ما قيمة إصرار الثورة على مواصلة الطريق الذى بدأته, طالما حججها زائفة والذين يحاكمون الآن هم براء من دم ابن يعقوب .. ؟ الشىء الوحيد القادر على إغلاق باب الجدل واللغط الدائر هو تعجيل القضاء بإصدار الأحكام العادلة والعاجلة على رموز الفساد دون تأخير , كما حدث فى محاكمات ثورات عديدة لرموز الحكم الذى أطيح به , وإلا كيف نجحت تلك الثورات ؟ فلم تكن المحاكمات السريعة لإرضاء الشارع فحسب, ولكن لأن البطء لم يكن فى مصلحة البلاد وأمان المواطنين أيضا, فكلما طال الوقت كلما ازدادت الشكوك واتسعت فجوة الثقة بين الشعب والجيش والحكومة, وبدأنا نسمع همهمات الناس المستاءة حول موقف المجلس الأعلى للقوات المسلحة مما يدور الآن, ولايجدون له تفسير , تماما كما خرج علينا الديب بحججه القانونية التى ستجعل من مبارك رمزا والعادلى بطلا والشعب مجرما..!
ومن هنا لا نملك سوى القول – كما قال الرجل السبعينى إبان التنحى _" شكر الله سعيك".