أمضيت ساعتين «أشاهد فيلم الفاجومى» الذى كتبه وأخرجه د.عصام الشماع، وقام ببطولته «خالد الصاوى» و«صلاح عبدالله»، عن السيرة الذاتية للشاعر «أحمد فؤاد نجم» التى نشرها فى التسعينيات باسم نفسه، حاولت خلالها أن أنتزع نفسى من ذكرياتى عن الوقائع التى يرويها، وأن أتحول من «متذكر» لزمن عاصرته، إلى مشاهد لفيلم سينمائى، هو فى ذاته عمل فنى مستقل بذاته عن الجميع، بما فى ذلك الواقع الذى استوحاه، يتوجب علىًّ أن أراه كما هو، وكما أراد صناعه، بعيداً عما أعرفه عن أبطاله الحقيقيين أو عن رؤيتى - وروايتى - لأحداثه التى عاصرت جانبا كبيراً منها.
ومع أننى فشلت فى تحقيق ذلك بشكل كامل، إلاّ أننى استمتعت بمشاهدة الفيلم، واندمجت فى متابعة أحداثه، ولم أتوقف إلا قليلاً أمام الفارق الشكلى بين «خالد الصاوى» و«صلاح عبدالله» اللذين يتميزان بالقوام الفارع الممتلئ، وبين «أحمد فؤاد نجم» و«الشيخ إمام» القصيرين النحيلين، اللذين تقمصا شخصيتيهما، إذ أقنعنى أداؤهما المتميز، بأنهما شخصان مختلفان يحملان الاسمين المستعارين اللذين اختارهما لهما المخرج المؤلف وهما «أحمد مراد نسر» و«الشيخ همام»، وأنهما - على الرغم من هذا التناقض الشكلى - هما بالفعل «أحمد فؤاد نجم» و«الشيخ إمام» اللذان عرفتهما.. وعرفهما غيرى.
ووصل كل منها إلى ذروة أدائه، فى مشهد أداء «صلاح عبدالله» لأغنيه «ناح النواح والنواحة.. على بقرة حاحا النطاحة» التى كتبت ليلة 9 و10 يونيو 1967، فى مونتاج متواز للمظاهرات التى خرجت فى تلك الليلة تطالب عبدالناصر بالعدول عن قراره بالتنحى عن السلطة، وفى تقمص «خالد الصاوى» شخصيتى «المحقق والمتهم» أثناء إلقائه قصيدة «التحقيق»، وهى قصيدة درامية استوحاها «نجم» من أول تحقيق أجرته النيابة العامة معه عام 1972.
ولا أنكر أننى دهشت حين تواترت الأنباء منذ عدة سنوات، بأن هناك فكرة بتحويل السيرة الذاتية للشاعر «أحمد فؤاد نجم» إلى فيلم سينمائى، إذ بدت لى فكرة طموحا وشبه مستحيلة لأسباب من بينها أن «نجم» شاعر، وليس راقصة مثل «شفيقة القبطية» و«بديعة مصابنى» أو ممثلا - وإن كان كذلك فى الواقع وليس على الشاشة - مثل «أحمد سالم» أو «أنور وجدى» وهو ليس سياسياً مثل «جمال عبدالناصر» أو «أنور السادات»، الذين أنتجت عن سيرهم جميعا أفلام سينمائية.. ولأن الطرف الآخر فى الظاهرة التى ارتبطت باسميهما، وهو الشيخ إمام عيسى، وإن كان ملحنا ومغنيا، فهو ليس - سيد درويش - أو أم كلثوم، أو عبدالحليم حافظ، الذين عرضت الشاشة الكبيرة أفلاماً تتناول قصص حياتهم.
صحيح أن الاثنين - نجم وإمام - حققا خلال العقد الأخير، جماهيرية ملحوظة، إلاّ أنها ظلت محصورة فى نطاق النخب الثقافية والسياسية.
من بين هذه الأسباب - كذلك - أن حياة «نجم» على الصعيدين الشخصى والعام ، ولو أنها تزدحم بالشخصيات والأحداث الدرامية، إلا أن تناولها فى فيلم سينمائى، لا يخلو من المشاكل والمآزق، لأنه - ولأن معظمهم- لا يزال على قيد الحياة، مما اضطره هو نفسه، إلى أن يضع قيوداً على قلمه وهو يتناولهم فى مذكراته، على الرغم من فاجوميته، ومن أنه استخدم هذه الفاجومية فى تناول آخرين، وهى قيود كان لابد أن يراعيها صناع الفيلم فى اعتبارهم، حتى لا يجدوا أنفسهم موضوعاً لمطاردات - ومكايدات - قضائية أو ملاسنات صحفية وقضائية لايكاد ينجو منها أى فيلم أو مسلسل يتناول سيرة شخصية تاريخية.
وكان لابد أن يتعلم «عصام الشماع» الحكمة من رأس الذئب الطائر، وأن يبحث عن شكل فنى مختلف يقدم من خلاله السيرة الفاجومية لهذا الشاعر الفاجومى، الذى لا يأتى من ورائه - بعد الشعر الجميل - إلا وجع الدماغ، شكل يجنبه الوقوع فى فخ أساليب السرد السينمائى التقليدى للافلام التى تؤرخ لسير الشخصيات التاريخية، وهو أن يتناول حياتها من البداية إلى النهاية، مع أن الفن ليس هو الواقع ولكن ما يختاره الفنان من هذا الواقع.
وهكذا اختار «عصام الشماع» أن يغير أسماء الشخصيات ليتخلص من الحرج، وأن يتوقف أمام التواريخ الرئيسية فى حياة «الفاجومى» وأن يختار من قصائده وألحان الشيخ إمام، تلك التى تؤرخ للعصر الذى عاش فيه، ليقدم عند كل وقفة لوحة درامية سينمائية تحفل بألوان من الجمال فى الديكور.. والصورة والإضاءة والتوزيع الموسيقى ، وبألحان لا تغادر الذاكرة يغنيها أحمد سعد وصلاح عبدالله، وبأداء يضيف إلى رصيد بطليه الكثير، ويعيد اكتشاف ممثلة مقتدرة هى «جيهان فاضل».
أما المهم، فهو أنك ستغادر السينما، دون أن تفكر فى مطالبة المخرج برد ثمن التذكرة، ليس فقط لأنك استمتعت بالفيلم، ولكن كذلك لأنه «فاجومى»، لم يتعود أن يضحك عليه أحد.. وإلا ما غامر بهذه المحاولة، لإنصاف شاعر لم يأخذ حتى الآن ما يستحقه من تقدير، مع أنه مؤسس رابطة الفاجوميين العرب!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة