صحة أى مجتمع كما ذكر مالك بن نبى تتكون من ثلاثة مكونات هى: الأفكار والأشخاص والأشياء، ويكون المجتمع فى أوج صحته وعافيته حين يدور الأشخاص والأشياء فى فلك الأفكار الصائبة، ويصاب بالمرض والاعتلال حين تدور الأفكار والأشياء فى فلك الأشخاص، وينتهى إلى حالة الجمود والوفاة حين تدور الأفكار والأشخاص فى فلك الأشياء، ويتحدد منهج الفهم والتفكير وسلم القيم الذى يسود ويوجه أنماط التفكير والاهتمامات والسلوك بين الأفراد على العلاقة بين هذه المكونات.
فسلوك الأفراد ما هو إلاّ الترجمة العملية لما يؤمنون به من أفكار، فإذا أردت أن تتعرف على بعض خصائص مجتمع ما فعليك بدراسة الثقافة والأفكار التى يؤمنون بها.
والعقول العظيمة دائما تناقش الأفكار، والعقول العادية تناقش الأحداث، فى حين أن العقول الضيقة هى التى تناقش أفعال الناس.
وانطلاقا من هذا التصور فبإمكاننا أن نراجع مواقفنا وأفكارنا ولنحاول الإجابة عن الأسئلة التالية :
ما الأفكار التى نؤمن بها حقا لمستقبل وطننا؟ وهل نحن مقتنعين بها صدقا؟ وما جهودنا وأدوارنا التى نقوم بها لغرس هذه الأفكار فى مجتمعنا؟ وهل حقا ندور فى فلكها أم هى التى تدور فى فلكنا؟
فلنكن صرحاء! ولنصارح أنفسنا ولنقل الحقيقة! ولا ندفن رءوسنا فى الرمال فإن الأزمة التى يمر بها الوطن دقت أجراس الخطر، فالكثير اهتم بالأحداث محللين ومنظرين، وبالأشخاص قيل وقال، والقليل الذى اهتم بالأفكار تناولها بسطحية مخلة وضبابية مانعة من الرؤية الشاملة الصحيحة لأبعاد الأزمة وخطورتها على مستقبل الأمة.
ومن الصور المؤلمة حقا انشغال الكثير بهذه الأشياء الفرعية على جهة التنظير، فسطروا عشرات الصفحات ومئات المشاركات على مدار أيام وأسابيع فى الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية، وانحصرت القضية عندهم فى من شارك فى الثورة، ومن تأخر؟ ومن حرض على ضرب المتظاهرين؟ وهل ينقل الرئيس السابق إلى طره أم يحاكم فى شرم الشيخ؟ وهل يحاكم أم يتم العفو عنه؟ وهل تؤيد المرشح الفلانى لانتخابات الرئاسة القادمة؟ وهل وهل؟ أسئلة كثيرة انشغل الجميع بها، ولم يتفقوا بعد على الإجابة عليها، ولن يتفق عليها اثنان.
والجميع ينساق وراء هذه المحاولات والمعارك الجانبية التى تستنزف الطاقات والجهود وتصرف الانتباه عن القضايا المحورية.
ونسى الجميع أننا صرنا أمام مصيرين لا ثالث لهما: إما أن نغير أوضاعنا تغييرا جذريا من داخلنا وإما أن نستسلم للتحديات التى تنذر بتدمير حلمنا والإجهاز على مشروعنا الحضارى، إننا بحاجة إلى تغيير اتجاهات وأفكار الجماهير وهذا لن يكون إلا بمراجعة مناهجنا التى يستقى منها الأفراد أفكارهم لتكون قادرة على غرس وتأصيل فكرة الولاء للأمة الإسلامية الواحدة، وفكرة التضحية فى سبيل المصلحة العامة، وترك الحرص على المكاسب الحزبية الضيقة أو المطالب الفئوية المقيتة، وتجديد فكرة الإصلاح والتحرر من كل ما يقيد العقول فتتفاعل مع تيارات زمانها وأحداث مجتمعها.
إننا نريد ثقافة تجمع ولا تفرق، وترحم وتترفق بالمخطئ ولا تتربص وتتعقب، وتقصد الموضوع ولا تتنازع على الشكل، تؤثر العمل الصامت المنتج بدل ذلك الجدل العقيم، حاجتنا إلى منهج يصل حاضرنا بماضينا، يدرك الواقع وحاجاته، ويمتزج بعلوم العصر ومعارفه، ثم يخرج للناس الخير الكثير.
فهل نصارح أنفسنا حقا، ونعمل على التغيير، وهل نترك اللوم لا نجعله عدتنا، ونجعل الفعل بعد اليوم ميزانا.
