لم يتزوج لأنه لا يعترف إلا بمشاكله، لم يحب امرأة لأنه فقد ثقته بهن جميعاً بعدما رآه من براعة الكاذبين أصدقاؤه فى التخفى وراء الأخلاق، مات والده وفى نفس اليوم تلف العود صديق والده بالليالى الجميلة، كان تلفه من نوع غريب. كل ما فيه سليم الأوتار الصندوق كل شىء، أما الأوتار دائماً نشاز.. لا تستقيم النغمة بين الأوتار مهما حاول تهرب النغمات من بين أصابعه.
ترك أصدقاءه حزنا على والده، تجول فى الأماكن التى كان يألفها والده، بدأ بالمكان المفضل لديه، خلوته فى ركن الحديقة، لكن وجدها غريبة موحشة، الحشائش هى الحشائش لكن الذبول يغطى كل عود من الحشائش، الزهور التى كانت تتراقص مع نسيم الهواء، الهواء هو الهواء أما الزهر جامد فى مكانه كأنه فى لحظة حداد يتساءل أين صديقه؟
ذهب لقصر الثقافة الذى كان والده أحد أبرز أعضائه، الابن لم يفكر فى الاندماج وسطهم، لم تربطهم به إلا مصافحة اليد المثلجة بدون حرارة، الجميع جلساء والده وغيرهم حتى المكان لا يقبل إلا الموسيقى الحزينة ويعترض بكل حماسة على كل لمحة فرح غير مقصودة، الكل يعلن الحزن الصامت إلا شابة غنت أغنية لم يشعر بغربة تجاهها رغم أنها المرة الأولى التى يسمعها فيها، بمجرد وصولها إلى مقطع معين حتى انهمرت فى البكاء.. تعجب ثم دون أن يشعر وجد نفسه يطلب منها أن تكمل الأغنية، فإذا بنظرتها التى أحيت بداخله شيئا لأول مرة وهى تقول إن ملحنها مات منذ أيام ولم يكمل الأغنية التى كان يقول إنها ستكون أكبر أعماله، فإذا برجل يقول لها إنه ابنه، فتمالكت بعض نفسها وأيدى حارة مرتعشة عزته وازداد الشىء فى صدره.
مشى فى الشارع بين الطرقات وجد نفسه يمشى فى طريق واحد، طريق مشاه كثيراً لكن لم يألفه مثل تلك المرة، وجد الطريق الحزين فى ذهابه، وجد ويرى فرحته به فى خطوات إيابه، نعم الأحجار الأرصفة حتى القطط، وبعد وصوله للبيت وكأنه يدخله أول مرة وجد عينيه تروح اتجاه العود، ذهب إليه وتناوله بأصابع دافئة وأخذ يلحن ويضرب على أوتاره وتذكر الأوقات الطوال التى ظل أبوه محاولا تعليمه العزف دون جدوى، مشغولا بمشاغل الماضى .. الماضى !! ما قيمته .. لا يهم الآن .. وأخذ يعزف ويعزف حتى وجد الأغنية التى سمعها من فتاة القصر تنساب نغماتها بين أصابعه دون أن يشعر ووجد كلماتها تتلاحق على لسانه وتعجب أنه لم يسمعها إلا مرة واحدة .. كيف حفظها ؟ .. إنه الحب، وهذا العود تركه كيفما تركه .. كيف .. إنه الحب .
وبحث عن كلمات الأغنية .. إنها أمامه .. وإذا ببقية اللحن يكتمل بين سويعات الليل الجميلة فى الركن الحزين فى الحديقة فإذا بالأزهار تتراقص والحشائش تخضر مع لمسات خيوط الشمس الأولى ونسيم الفجر يداعب كل شىء حوله فرحين بنغمات الأوتار وكأن قلب السعادة سار ينبض من جديد فى هدأت الحب الذى لف المكان بأكمله.
عاد إلى القصر فصافح كل من فيه بيد حارة من دفء المشاعر وعزفه على عود والده الذى كان يمسكه فى اليد الأخرى، وظل يتلفت حوله يبحث عن الفتاة لم يجدها.. شط عقله.. أين يجدها؟ فإذا بمسامعه تنصت إلى الأغنية وعندما وصلت إلى المقطع الناقص عزف هو بقية اللحن فإذا بدموع تتساقط من أعينهم وأعين كل الحاضرين وإذا بقطرات المطر تتناغم مع أصوات الحاضرين الذين شاركوهم الغناء فى تأثر شديد.. وإذا بالمكان يستعيد نوره ونظرات كل شىء تهنئ بعضها.
بنظرة سؤال حب سأل عينها التى تهربت من الإجابة وبحثت عن حبيبها الذى ظهر ليهنئها بشدة.. فتبسم الابن وأمسك بالعود بشدة وسط عناق وحب أصدقاء القصر الفرحين بنغماته الجميلة.
