المتابع لوسائل الإعلام ـ وبخاصة المرئى ـ يكاد يشعر لأول وهلة أن المشهد الإعلامى بات يعانى من حالتى استسهال واجتراء؛ وليس من قبيل التهكم لو قلنا إسهال واجترار. وما بين الإسهال والاستسهال؛ والاجترار والاجتراء.. شعرة دقيقة تكاد لا تراها العين. فالإسهال عرض أو مرض يصيب الجهاز الهضمي؛ أبسط تعريف له أنه زيادة عدد مرات االتبرز. والاجترار ظاهرة لدى الحيوانات المجترات تتمثل فى تقيؤ بعضا من الطعام بالمعدة ليلوكه الحيوان بأضراسه ثم يبتلعة مرة أخرى.
وفى توصيف حالة الإسهال أو الاستسهال الإعلامى تجد أنه من العتى على المتابع الحصيف أن يرسم خريطة واضحة المعالم للمشهد الإعلامي؛ ففضلا عن أنها غير متماسكة القوام تجد عدد القنوات فى العالم العربى يتجاوز 300 قناة. فضلا عن أن عدد البرامج أصعب من أن يحصى؛ وبخاصة ما يتم توصيفه تحت مسمى برامج حوارية (talk show) فماذا عن متابعة محتويات تلك القنوات. وأقل ما يوصف به هذا الوضع أنه أشبه ما يكون بحالة إسهال من القيل والقال والكلام المكرر والمعاد. وحالة من استسهال التكرار "واللت والعجن"؛ بل من فرط التكرار والتداخل يلتبس عليك الأمر بين الواقع والحلم إذ ينتابك شك هل سبق وأن شاهدت ما تشاهد، أم أنك كنت تحلم، أم أنه تداخل بين الوعى واللاوعى.
ولأن الكثير من هذه البرامج أشبه ما يكون بالمجمعات الاستهلاكية العملاقة التى تقدم كافة أنواع المنتجات من السيارات حتى ملح الطعام؛ فهذه البرامح أيضا تتناول كل شنكان وليس أدل على ذلك من أنها عجزت عن اتخاذ اسم يعبر عن محتواها؛ واتخذ البعض الآخر أرقاما كوديه فيتسنى له تناول حرب العملات جنبا إلى جنب مع مشكلة السمنة لدى النساء وأشهى وصفات الطعام.
وعن حالة الاجترار أو الاجتراء.. تتناسخ وتتشابه البرامج الكلامية بين مختلف الفضائيات دون خوف من ملاحقة قضائية لانتهاك حقوق ملكية فكرية؛ تلك الحقوق التى تكاد تضيع تماما فى المجتمعات ذات السبق والريادة فى قوائم الثقافات الاستهلاكية. وهى أشبه ما تكون بحالة من الاجترار للأفكار القديمة التى ترتدى ثوبا جديدا. والطريف أن كل مقدمى البرامج منظرين ومفكرين يتكلمون فى الشأن العام وغدا الكل ينظّر ويحلل ويخاطب الجماهير ويوجه الدفة. الاجترار هذا يعبر عن حالة من الإفلاس الإبداعى والإنتاجى حتى على مستوى النخبة فكما تنتشر المهن الثانوية والبطالة المقنَّعة حال إفلاس المدن؛ تنتشر حالة الاجترار والاستنساخ فى حالة الإفلاس الإعلامى.
وتعجز معظم هذه الفضائيات عن تحقيق سبق إعلامى أو صناعة حدث. ومقارنة بما فعله ويكيليكس تشعر بمدى تضاءل دور هذه الفضائيات مقارنة بما تحصده من أموال الإعلانات والفواصل الإعلانية التى ما فتئت تعكر على المشاهد صفو المشاهدة، أو بالأحرى تزيد المرارة علقماً. ولا مناص من مشاهدة هذه الفواصل الإعلانية أحيانا فمن قناة إلى أخرى تكتشف أنه فى ذات التوقيت يأتيك الفاصل الإعلانى ذاته لتكتشف أن إحدى شركات الدعاية تحتكر الدعاية الحصرية وتروج لذات المنتجات فى التوقيت ذاته.
فأين احترام حرية المشاهد من هذا الاحتكار المقيت؟ ورغم هذه المدد الزمنية الإعلانية المتطاولة، تضن عن تمويل مشروع بحثى تطبيقى أو إعلامى يثبت حقا قوميا أو يكشف حقيقة الفساد وما يدور وراء الكواليس، الأنكى والأدهى أن الكثير من البرامج الكلامية تفتح أبواب التبرع فى حالة من المزايدة ما فتئت تجرح كرامة المصريين. ولا نسمع صخبها وضجيجها إلا بعد خراب مالطا. فى حين أن بعض وسائل الإعلام الغربية تمول بعض الأبحاث التطبيقية أو المهمات الاستكشافية نظير احتكار نشر نتيجة تلك الأبحاث لتحقيق السبق الصحفي، واحترام عقلية المتلقي، وكبريات الصحف والفضائيات عندنا لا تستنكف النقل عن هذه الوسائل الغربية نقل عشواء؛ وهى بعد لا تكف عن أن تنحو باللائمة على الجامعات المصرية التى لا تحظى بأى تصنيف عالمى.
ومن اللوازم التى تعترى المشهد الإعلامى بشكل منتظم هو ذلك التتبع البوليسى لكل تصرفات القيادات الإخوانية وكوادر الجماعة السلفية وكأن المشهد خلا إلا منهم. ويرتكبون نفس حماقات عصابة الوطنى المنحل؛ فى دفع مزيد من المتعاطفين إلى التمترس فى الدفاع عن الجماعة ضد حتى محاولات النقد الموضوعى المدفوع بنية وطنية صادقة لتوجيه الجماعة نحو تحقيق المزيد من المصلحة الوطنية.
والحق أن المشهد لا يخلو من مسحة إيجابية؛ فمن الخواطئ سهم صائب. فهذه الفورة الإعلامية أوجدت الكثير من فرص العمل أمام الخريجين فضلا عن أنها تكاد تكسر عقبة الواسطة والمحسوبية فى هذا المضمار وإن تشابهت الوجوه والموضوعات لكن ثمة بصيص من أمل كما أنها وفرت فرصة للتدريب للكثيرين. وتلك الفورة التى كسرت حالة الاحتكار كانت السبب الرئيس فى أن يستيقظ المعنيون من غفوتهم للبحث فى رسالة الإعلام ورؤيته.
والحقيقة أنه من أسباب الأزمة أن الإعلام ظل ردحا من الزمن حكرا على الدولة وظل مشغولا بالأمن السياسى، وأخبار النخبة السياسية؛ كما أن الصحف الحزبية كانت ومازالت تضع المعايير الأيديولوجية فوق الاعتبارات المهنية؛ وحين ظهرت الوسائل الإعلامية الخاصة لم تبعد كثيرا عن هذا المضمار فضلا عن انشغالها بالربحية والانتشار وفوبيا الريموت كنترول "وعشان الزبون ما يرحش فى أى حتة" اتبعت أهواء الجماهير ولم تحفل بالتنوير. فلا عجب أن يبحث الكثير من المشاهدين عن همسة أمان فى الخطاب الدينى للقنوات الدينية وما لهذا الخطاب من أثر فى تهدئة النفوس وتعبئتها فى آن واحد معا؛ أو الانغماس فى متابعة البرامج "الكروية"؛ أو الهيام مع "كليبات" إباحية. ولن تفلح جهات تقييم الأداء إلا فى تشويش المشهد؛ إذ أن هذا من قبيل المسكنات لحمى الإسهال والاجترار. مكمن الداء هو انعدام الرؤية والرسالة لدى وسائل الإعلام.
محمود حامد الشريف يكتب: ميديا الإسهال والاجترار
الخميس، 30 يونيو 2011 01:26 م
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة