كان طويلاً، عميقاً لكنه مخادع، ظنناً لعقودٍ من الزمن أنه وهم حتى كاد أن يُنسى بعد سبات عميق مع التأقلم والألفة بيننا وبين النظام السابق أنه حلمنا إلى الحرية، وكان كلما ظهر شعاع أمل فى سماء الديكتاتورية المقننة، يُعلن عن الرفض والمقاومة تظهر القوة الباطنة لتقتله وتقول إنه إخلال بأمن الدولة، وهكذا عشنا أكثر من نصف قرن فى نصف حلم لا يتحقق إلا فى المخيلات، ونصف حرية لا تنجو من أمن الدولة، وفجأة وبألف مقدمة ومقدمة من الظلم والقهر والاستبداد ذى الأوجه المتعددة سنوات وسنوات نصحو على الثورة، وأقول فجأة رغم المقدمات الكثيرة لأننا تفاجأنا حقاً بما نستطيع أن نفعل ولم نصدقه إلى أن فعلناه، ورغم أن الحلم كان مشروعاً إلا أن المتربصين به وغير المصدقين حتى الآن بأننا استطعنا تحقيقه يحاولون الالتفاف عليه لجعله إما حلم غير مشروع أو حلم مسروق.
البعض يرى أن الثورة حُلم تحوّل إلى كابوس لأنها أغرقتنا فى ديمقراطية لها أنياب على رأى الرئيس السادات بدأت تنهش فى قلب الوطن وهذا بالنسبة لهم كان واضحاً مع الانفلات الأمنى والفتن الطائفية وظهر جلياً مع الانشقاق الذى حدث حول الخروج فى جمعة الغضب الثانية 27 مايو، والبعض يرى الثورة تُسرق على مرأى ومسمع الجميع ولا حياة لمن تُنادى على اعتبار أن كل ما يحدث ضد قيام دولة مدنية لأن المستعدين لخوض الانتخابات القادمة هم الإخوان المسلمون الأقوى تنظيماً، ولكن يبقى رأى الثوار هو الفيصل فى كل هذا... لماذا؟.. لأنهم مَن قاموا، وتجمعوا، وغضبوا، وتمردوا، وثاروا، ونجحوا، والكل كان على قائمة الانتظار حين ضُربوا، وقتلوا، واستشهدوا، وذاقوا الذل فى ميدان الثائرين "ميدان التحرير".
نعم هم مَن لهم الكلمة الحقيقية، ولا تقولوا إننا شباب لا يعرف كيف تُدار شئون البلاد يحتاجون لخبرتنا، لأن هؤلاء هم من أسقطوا النظام وليس أنتم. وعلى رأى الشاعر الشاب عمرو قطامش "وبصرخة شاب سيس سقط نظام ورئيس".. نعم اعترفوا أيها الكبار أن هذا الشباب الذى تجاهلتموه فى كل شىء وهو عماد المستقبل هو من صنع الثورة، اعترفوا أن الشاب الذى ضاعت منه فرصة تعليم فعّال، وتدريب على فنون الحياة والقتال بها، الشاب الذى أجهضتم أحلامه فى حياة كريمة على شواطئ إيطاليا واليونان. الشاب الذى سقط من حسابات كل الحكومات البائدة فى الأنظمة السابقة وجعلوا منه أضحوكة فى العالم يعمل ما لا يقبله غيره من الجنسيات الأخرى فى غربة لا تقل وحشة عن الغربة فى الوطن هو من أعطى صوتاً الآن لأقزام يصنعوا بطولات على حسابه، لم يُسمع لهم صوت من قبل إلا خلف الأبواب المغلقة.
استغرب حقاً أن اسمع رئيس حزب أو مفكر أو شيخ أو قس أو إعلامى يقول "أنا كنت فى التحرير" متى؟... بعد أن صمدوا، واعتصموا؟ أم بعد أن ضربوا وهاجمتهم الخيول والجمال؟ إن كنتم نسيتم مشهد شوارع الإسكندرية والسويس والقاهرة وهى تحتضن دماء هؤلاء الشباب فلتفتحوا صفحات الانترنت وتشاهدوها من جديد... فنحن نُقدر تعبكم خلال 18 يوم تتنقلون فيها بين القنوات وانتم تشتمون الثوار وتلعنوهم على الملأ ثم تنتقلون مرة أخرى بنبرة جديدة للاستيلاء على الميدان.
صعب الاعتراف؟...... إذن لنعترف نحن... نعترف أنكم تملكون من الذكاء ما يكفى للوصول إلى كرسى الرئاسة، ونعترف أنكم تنظمون صفوفكم أكثر دقة وحنكة منا، ونعترف أننا نحتاج لخبراتكم العظيمة لتمّنوا علينا كمساعدين فى مكاتب الوزراء القادمين، ولكن أيضاً نعترف بأننا نملك من الإرادة ما هو كاف ويغلب ذكائكم لنحمل الكرسى الرئاسى ونُلقى به فى ميدان التحرير ليكون مقراً جديدا لرئيس ثائر ومجلساً ثائراً مثلنا... إذا لم تصدقونى اسألوا الميدان.......
يزداد كل يوم عدد مَن يجهلون المعنى الحقيقى للثورة فأغلبهم يكتفى بالفتات الساقط من مائدة الأسياد. يكتفون بتعديل دستور انتهت شرعيته، بتعديل وزارى، بإيجاد أنبوبة البوتاجاز أو السولار، بانتهاء فتنة طائفية أو رفع الأجر حتى يكفى إلى نصف الشهر بدلا من ربعه........الخ، هؤلاء ليسوا همّ الثوار، ليسوا مَن حلموا وبذلوا حياتهم فى تحقيق هذا الحلم الثائر نحو الحرية، نحو العدالة والمساواة. فالأحلام ليست لها سقف أو شروط، ولكن من رحم كل حلم يولد آخر أهم.
لا تظنوا أن الشباب الثائر سيقف عند حدّ الأحلام الآن، فموعد تحقيقها قد حان، وما يحدث اليوم من تخبط فى قيم الحرية والديمقراطية بواسطة بلطجة الشارع أو بلطجة الأفكار بفرضها علينا عن طريق الإعلام الخائب ليس إلا نتاج ما يحدث بداخل القلة التى لا تعى حقاً معنى أن يكون المصريون أحراراً، لقد هدم الثوار إمبراطورية استعمارية فى 18 يوما، الهدم دائما يكون سريعاً، واليوم نحتاج إلى وقت طويل لبناء مجتمع مدنى مبنى على الحرية والعدالة الاجتماعية لا تنازل عنه، وقت لا يكون فيه الصوت للانتهازيين أو الفوضويين بل للمعلمين، لنتعلم كيف نبنى أنفسنا ونبنى الوطن من جديد على أساس سليم يضع الإنسانية على قمة الهوية المصرية.
