كان من أهم الشعارات والمطالب التى عبّرت عن روح الثورة فى ميدان التحرير على امتداد أيام الاعتصام، هو شعار «لا دينية.. ولا طائفية.. مصر دولة مدنية»، و هو ما يعنى أن حلم قيام الدولة المدنية كان أحد أهم مطالب الثورة، والذى كان هناك توافق، بل درجة كبيرة من الإجماع حوله.
لكن بعض قوى الثورة- بصرف النظر عن حجم مساهماتها فيها- بدأت بعد إزاحة رأس نظام الاستبداد والفساد فى مسيرة التراجع عن هذا الإجماع، هذا التراجع الذى لم يستطع حتى الآن أن يعلن أصحابه مباشرة وبشكل واضح عن موقفهم الرافض لقيام الدولة المدنية، بل راحوا يضيفون إليها صفات أو سمات هى فى الحقيقة محاولات لإجهاض حلم المصريين فى دولة ديمقراطية مدنية حديثة.
والحقيقة أن هذا الموقف الذى يحمل قدرا كبيرا من ألاعيب السياسة التى لا تحترم عقلية المواطن أو حقه فى الاختيار، كان من المفترض تجاوزه، احتراما للثورة التى دفع فيها شباب مصر دماءهم عن طيب خاطر، أما استمرار نفس النهج من المناورات، واللعب بمشاعر البسطاء، فهو نهج خاطئ، وعلى كل صاحب موقف أن يعلن موقفه بكل وضوح وشفافية، ويدافع عنه، ويترك الأمر للاختيار العقلانى للناخبين إن كان حقاً يؤمن بالديمقراطية وصندوق الانتخابات.
فالدولة المدنية- باختصار شديد الوضوح- هى دولة سيادة القانون الذى يساوى بين كل المواطنين بصرف النظر عن دياناتهم أو ألوانهم أو أصلهم الاجتماعى أو العرقى، ذكورا كانوا أم إناثا، هذا القانون الذى تستند شرعيته إلى المبادئ العامة الواردة فى الدستور أو «العقد الاجتماعى» الذى توافقت عليه الأمة وارتضته، وبالتالى فإن كل قانون مخالف لمبادئ الدستور هو قانون ساقط وغير شرعى مهما كانت مرجعيته التى يستند إليها.
وبالتالى فلا مرجعية ولا شرعية إلا ما يتوافق عليه أبناء الوطن جميعهم فى دستورهم، فى هذا السياق دعونا نوجه السؤال:
هل يمكن أن تختلف كل الأديان «سماوية /وضعية» على مبادئ عامة مثل العدالة والحرية والمساواة؟ هل هناك دين يدعو للاستبداد أو الظلم الاجتماعى أو التمييز بين البشر؟.. إذا كانت الإجابة بلا- وهى بالتأكيد لا- لماذا إذن الإصرار على الإشارة إلى دين معين كمصدر لهذه المبادئ دون باقى الأديان، رغم أن الأديان كلها مخزون للقيم والمبادئ النبيلة التى يستمد منها الناس معاييرهم الأخلاقية؟
إذا كانت القاعدة الفقهية تؤكد أنه طالما كانت هناك مصلحة للناس فثمة شرع الله، فهل يمكن تصور توافق أو اتفاق عموم الناس أو أغلبيتهم على ما هو ضد مصالحهم أو ضد فطرتهم التى فطرهم الله عليها، أو ضد ما يخالف ما شرعه الله من قيم ومبادئ؟. أنا هنا أتوجه لبعض من يطرحون فى منشوراتهم أن الدولة المدنية تعنى تقنين وإباحة الزواج للمثليين أو الشواذ جنسيا، هل يمكن لعاقل أن يتصور أن هذا القطاع العريض من أبناء الوطن- ولن أقول الأغلبية- يستهدف من إقامة الدولة المدنية وعدم وجود مرجعية دينية، خلق الفرصة للتشريع بإباحة زواج الشواذ أو الدعارة.. إلخ، هذه الأمراض الاجتماعية التى يوجد من يقاومها فى الغرب غير المتدين، مهد الدولة المدنية، بأكثر مما نقاومها نحن فى بلادنا، مهد الأديان؟
هل تعنى الدولة المدنية تجاوز أو إلغاء ما يتعلق بمعتقدات وشرائع المواطنين المتعلقة بقضايا مثل الزواج والميراث.. إلخ؟، إذا كانت الدولة المدنية والديمقراطية تقوم على احترام القانون الذى تضعه مؤسسات برلمانية منتخبة بشكل حر ونزيه يمثّل كل أبناء الوطن بأديانهم المختلفة، وإذا كانت تلك القوانين لا يمكن أن تتعارض مع مبادئ الدستور التى تحترم حرية الاعتقاد وما يرتبط بها من ممارسات اجتماعية، وإذا كانت الدولة المدنية الديمقراطية تكفل جميع أشكال الاحتجاج السلمى على أى قانون أو سياسة- فهل يمكن بعد هذا تصور صياغة قوانين ضد شرائع ومعتقدات المواطنين، وحتى عدم ثورتهم ضدها إن فُرض وحدث؟
إن تصور حدوث هذا وقبوله لا يعنى إلا شيئا واحدا، هو عدم الثقة فى إيمان المواطنين، وبالتالى فقد منح من يرى هذا نفسه مسبقا مهمة التفتيش فى صدور الناس، والحكم على إيمانهم، الذى لا يحاسبهم عليه إلا خالقهم.
النصوص الدينية المقدسة شىء وتطبيق ما تدعو إليه شىء آخر، فالنصوص لا تطبّق بنفسها، ولكن من خلال بشر يقومون بتفسيرها وتأويلها وإنزالها على واقع الحال، وهو ما يختلف فيه مجتهد عن آخر، أو فقيه عن آخر، أو رجل دين عن آخر، لذلك فالمرجعية الدينية هنا تحيلنا فورا إلى اجتهادات وتأويلات رجال الدين، وهم بشر أيضا تحكمهم المصالح والأهواء والغرائز، لأنهم بشر وغير معصومين، فهل نترك مصائرنا لتفسيرات دينية يضعها أفراد لا سلطان عليهم إلا ما يعتقدون بصحته، كبديل عن قواعد ومبادئ دستورية، وقواعد قانونية تتوافق عليها الأمة وتصدرها مجالس نيابية يمكن محاسبتها وإسقاطها؟
التساؤلات السابقة ليست فى الدين-أى دين- لكنها فى الحقيقة تساؤلات فى السياسة، نحتاج فيها لإجابات واضحة بعيدة عن المناورة والتعبئة تحت شعارات الدين، فهل نسمع إجابات تستند إلى العقل والمنطق من أصحاب دعوة الدولة الدينية ذات المرجعية الدينية، أم سيبادروننا باتهامنا بالكفر كما هى عادتهم؟!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد صلاح
الديمقراطيون لايؤمنيون بالديمقراطيه
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالرحمن يوسف
كنت با احبك والله يا استاذ جورج
عدد الردود 0
بواسطة:
فيصل عبد المجيد خطاب
مدنية الدولة والعلمانية ليست دينا بديلا عن الاسلام
عدد الردود 0
بواسطة:
ياسر النحاس
دولة مدنية ذات مرجعية أسلامية
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل محمود
تحياتي
عدد الردود 0
بواسطة:
هيثم المصري
لماذا تتكلم نيابة عن كل المصريين ؟
عدد الردود 0
بواسطة:
عاطف الصغير
احترم بشدة جورج اسحق .. ولكن عفوا ..
عدد الردود 0
بواسطة:
م ا الدسوقي
الصندوق هو الحل
عدد الردود 0
بواسطة:
م/مصطفى
طب وفرقت إيه
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد رسلان-الغردقه
بلاش نرد عليك يمكن تفتكر نفسك حاجه لا سمح الله
احسن رد هوه عدم الرد