العلمانية مصطلح غريب عن واقعنا وتاريخنا.. نبات نشأ فى أرض أخرى لظروف تاريخية واجتماعية وثقافية مختلفة، وبالتأكيد لا يصلح لتربتنا.. كما لا يصلح أيضاً نظام ثيوقراطى.. لقد ميّز الله أرضنا بالوسطية والاعتدال، أى نأخذ نصيبنا من الدنيا، دون أن ننسى الآخرة، أو هكذا أفهم.
وربما يقول قائل ما المانع من الاستفادة بتجارب مجتمعات أخرى، خاصة إذا كانت قد أحرزت تقدماً، ولماذا ينبغى علينا أن نعيد اختراع العجلة؟؟.. وهذا حق، ولكن القياس فى هذه الحالة مختلف، لأنه فى مجال التجارب الإنسانية تكون كل تجربة ابنة تربتها، بل إنه حتى فى حالة «العجلة» التى يتم استيرادها يتم تكييفها لتتلاءم مع ظروفنا المحلية.
وقد يقول قائل آخر إن ذلك يعنى التخلف عن ركب «الحداثة»، والواقع أن العلمانية ليست معياراً للحداثة، وظروف نشأة المصطلح وتطبيقه فى أوروبا لها خصوصية العلاقة بين مؤسسة الكنيسة والحكم وأشياء أخرى لا محل لها الآن، وباختصار فإنه لكى تكون لدينا علمانية، يجب أن يكون لدينا أولاً كنيسة مسيطرة ضد الحرية وضد العلم، بل ضد الدين نفسه.
من المؤسف أن الجدل يدور حول مصطلحات دون ضبطها، والاستقطاب الحاد حول قضية لا تخص مجتمعنا، لأن سبب التخلف لم يكن، لأننا لم نكن علمانيين أو أقل تديناً، سبب التخلف هو الاستبداد.. الاستبداد الذى يعيد البعض إنتاجه الآن بالتعصب الأعمى لرأى حتى دون اختبار قيمته العلمية أو العملية.
وربما يحتج طرف آخر بأن ذلك يعنى رفض الديمقراطية.. وفى الواقع الديمقراطية شىء آخر، لأنها بضاعتنا الأصلية، فالشورى أمر إلهى وهى أمر لا فكاك منه لتطور المجتمعات.
الأدبيات الإسلامية والعربية بها العديد من الدراسات الجادة حول شكل الدولة، وهى لا تتفق بالضرورة مع الفلسفة العلمانية، وأظن أن المشكلة تتركز فى الخلط غير المتعمد أحياناً بين علاقة الدين بالمجتمع فى أوروبا فى القرون الوسطى، ودور الدين فى المجتمعات العربية والإسلامية، والموضوع يطول شرحه، ولكن باختصار يمكن القول بأن الدين فى الشرق الأوسط (يهودى أو مسيحى أو إسلامى) ليس وافداً خارجياً، وإنما جزء عضوى من نسيج المجتمعات نفسها لا يمكن تصور فصله، ومن ناحية أخرى فإنه لا توجد مأسسة (Institutionalism) للهياكل الدينية تشبه مثلاً الفاتيكان، ولم تشهد صراعاً بين السلطة الزمنية والسلطة الحاكمة بتفويض إلهى إلا فى فترات قصيرة، وقد أشار إلى بعض ذلك «الكواكبى» فى كتابه الرائع «طبائع الاستبداد».
لذلك لا أجد محلاً لهذا الجدل شبه البيزنطى حول «علمانية الدولة» أو «دينيتها»، لأن الدولة فى شكلها الحديث هى اختراع بشرى، أسلوب لتنظيم حياة الجماعة، وهى لذلك ليست نصوصاً مقدسة، وإنما قواعد توافقية لمجتمع ما فى فترة زمنية ما، وهذه القواعد قابلة للتبديل والتغيير، بعكس قواعد الدين الشرعية التى يحظر فيها ذلك، ومن ناحية أخرى فإن الدولة الدينية بمفهومها العلمى لم تشهد تطبيقاً لها فى التجربة الإسلامية مماثلاً للتجربة الأوروبية، لأن الدولة أو الأمة، حتى فى أكثر عصور المجتمعات الإسلامية انحطاطاً، لم تكن سوى دولة مدنية.
باختصار.. هناك قضايا حقيقية أكثر جدارة بالاهتمام والنقاش، لأن بعض ما يدور حالياً هو جدل حول «لا قضية».. والله أعلم...
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د/محمد عباس
اصبت ورب الكعبة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشناوى
هكذا يكون الكاتب المحترم
مقال رائع اشكرك عليه ونرجو منك المزيد
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد عبد الله
الجدل الحالى عقيم
عدد الردود 0
بواسطة:
reda
كلام معقول
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود انور
موضوع رائع