إبراهيم أصلان

مدينة تستند إلى صهريج

الجمعة، 24 يونيو 2011 04:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما إن انتهيت من قراءة هذه الرواية الأولى (كائنات الحزن الليلية) للكاتب الصحفى محمد الرفاعى التى أصدرتها دار ميريت مؤخراً، حتى تذكرت صديقنا الناقد الراحل فاروق عبد القادر الذى أمضى حياته فى متابعة ما تصدره المطابع من أعمال. تذكرت كيف كان يغبطنى لأننى لم أكن أستمر أبداً فى قراءة أى كتاب لا يعجبنى، بينما كان عليه، باعتباره ناقداً، أن يواصل قراءة الكتاب حتى نهايته أياً كان مستواه، وإذا كنت أستطيع القول بأن هذا كتاب جيد أو كتاب ردىء وأمضى، فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك من دون أن يعدد الأسباب التى جعلت، فى رأيه، من هذا كتاباً جيداً، ومن الآخر رديئاً.

تذكرت صديقى الناقد الراحل إذن، وفكرت أنه إذا كانت الرواية فى أحد تعريفاتها هى انطباع شخصى عن الحياة، فلا بأس من تقديم قراءة سريعة هى بمثابة انطباع شخصى عن الرواية ذاتها، على سبيل لفت انتباه الناقد المتخصص والقارئ، وتعبيراً عن الامتنان لكاتب أهدانا عملاً يمثل إضافة حقيقية، ثمينة ومنعشة، للجسد الروائى المصرى.

و(كائنات الحزن الليلية) رواية عن الأحياء الفقيرة بأزقتها وحواريها ومقاهيها ولياليها الخالية الباردة وحكايات الناس والرفاق التى لم يبق منها غير ظلالها التى استطاع الكاتب استحضارها جميعاً بدرجة عالية من الحساسية. وهى رواية عن الطفولة والصبا وسنوات التكوين وكتب ماركس ولينين، الأحلام الصغيرة وأيام الحنين لشاعرية اللحظات الجميلة المفقودة. هكذا الحياة دائماً. يمضى الواقع نثاراً محدوداً بحدود وقته العابر، إلا أنه، بقوة الفن والخيال يكتمل، يصير حاضراً أكثر، مؤثراً أكثر، ومفتوحاً على المدى.
وتلك هى معجزة الفن الحقيقية.
ورغم أن الرواية فى عشرات من المشاهد القصيرة فإنها استطاعت أن تمنحنا بانوراما تنبض بالحيوية على خلفية ممتدة ما بين مدينتين وصحراء: المحلة الكبرى حيث النشأة والمولد والمزار، وبين الإسكندرية التى يعشقها المحلاوية كما يعشقون حقول الفول التى تلف المدينة: «هناك عشق غريب وغامض بين المحلة التى تقف مستندة على صهريج المياه العالى فى سوق اللبن، وبين الإسكندرية التى تنام على ذراع البحر فى رخاوة».

إنها رواية البحث عن زمن ضاع، وأوقات احتوتها الغرف الفقيرة وترددت فيها القنابل المسيلة للدموع وارتفعت فى سمائها آلاف الهراوات فى لوحة اختلط فيها الدم والموت والمطاردة الوحشية، والأيام الطويلة يقضيها الراوى فى كافتيريا الكلية وحيداً أو يقف ضائعاً فى محطة الرمل: «يراقب باعة الكتب والمجلات والوجوه المتعبة أمام السنترال فى انتظار مكالمة قد لا تأتى، يقف مرتعشاً ووحيداً فى هذا البرد، منتظراً أن يخرج من بين الوجوه الكثيرة التى تغادر الميدان وجهاً يعرفه، فيتبادل معه تحية المساء. وعندما يرحل آخر ترام كرجل عجوز يجر جسده المتعب من وطأة السفر والأيام، يخترق شارع سعد زغلول حتى المنشية، يجلس على المقهى الكبير الذى يقع تحت تلك اللوكاندة القديمة يراقب عربات الرش وهى تغسل الميدان من بقايا اليوم وملامح البشر».

ولا يلبث المشهد أن يتسع بعدما يتطوع الطلاب إبان حرب الاستنزاف ضمن فصائل خدمة الجبهة من أجل حفر خنادق للذخائر والجنود، وليل الصحراء الذى هو الأجمل فى الدنيا حيث يجالس الرفاق: «وحيث تبدو السماء الواسعة الصافية غابة من الفراشات المضيئة، لا تتوقف عن الارتعاش»، بينما آلاف الوجوه التى كان يعرفها تقفز الآن من دفاتر الذاكرة القديمة، ويحاول لملمة روحه المتعبة ويختبئ من الظلمة فى الظلمة ويصبح للصمت صوت، ويهم بدخول ذلك الكوخ المصنوع من الصاج، الذى تحول فى هذا الليل إلى أرغول تنفخ فيه الريح».





مشاركة




التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

شكرا

رائع انك تقرا مقال لأبراهيم اصلان

شوقتني اقرا الروايه

عدد الردود 0

بواسطة:

مصرى

استاذ كبير

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة