على المثقف أن يتكلم ويعلن انحيازه إلى مبادئ الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي، ويقف إلى جانب المغلوبين ومن كممت أفواههم ومنعوا من الكلام. إن لم يفعل فإنه يخون رسالته كمثقف ويتحول إلى تقنى وخبير يشبه غيره ممن يتقنون أعمالهم، بغض النظر عن طبيعة هذه الأعمال مفيدة وخيرة كانت أم ضارة بالناس وشريرة. مشاركته السياسية والاجتماعية وانحيازه هى التى تجعل منه مثقفا.
وقد تكلم الصديق الشاعر والمثقف العربى الكبير أدونيس فى رسالة مفتوحة وجهها للرئيس السورى بشار الأسد ونشرتها صحيفة السفير اللبنانية قبل يومين. تردد أدونيس خلال الأشهر الماضية، وتخوّف مما يمكن أن تقود إليه الاحتجاجات والانتفاضات، خصوصا فى سوريا التى قال إن "التظاهرات تخرج فيها من الجوامع"، وهو يعلم أن النظام لم يترك فضاء للاحتجاج، وناء بثقله على العقول والأفكار قبل أن يسد الأفق فى وجه أى شكوى أو أنين. لكن أدونيس حزم أمره أخيرا وكتب محللا واقع سوريا السياسى والثقافى ليطالب فى النهاية برحيل حزب البعث عن سدة الحكم وفتح الباب فى وجه الديموقراطية وتداول السلطة.
قال أدونيس إن حزب البعث فى سوريا تحول إلى سلطة دينية، وإن اتخذت لبوسا أرضيا يعلى من شأن العرق ويهمل الثقافة واللغة. وقال إن مشروع البعث فشل وسقط سقوطا مدويا على مدار السنوات التى استأثر فيها بالسلطة فدمر التعليم والثقافة وأحال سوريا إلى ديكتاتورية تسلطية تلغى الآخر وتدوس مفهوم المواطنة وتحيل الوطن إلى شيع وطوائف وقبائل مذهبية وعرقية. كما نبه الشاعر والمفكر الكبير إلى أن الغرب، إذ يرفع شعار تطبيق الديموقراطية وحقوق الإنسان، يتحرك فى أفق مصالحه، لكنه يجد فى ما يحصل فى سوريا ذريعة ودليلا على صحة ما يقوله؛ لا ينتقص من ذلك أن تكون أمريكا، والغرب عموما، تغض البصر عما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين منتهكة شرائع حقوق الإنسان جميعها. هذا لا يبرر القتل ودوس كرامة الإنسان السورى بذريعة ازدواجية المعايير والتدخل الأجنبى.
تكلم أدونيس مطولا عن العقل الدينى، الذى انعكس فى ممارسة حزب البعث فحوله من حزب علمانى إلى حزب دينى مستبد يخنق التعبير ولا يتسامح مع الرأى الآخر، فى محاولة منه للإشارة إلى أن ما ينتظر سوريا، إذا سقط النظام، قد يكون بديلا دينيا، محيلا مرة ثانية إلى تأويله السابق للوضع السوري. لكن المهم فى الخطاب الأدونيسى الحالى هو أنه يلتقى مع المطالبة الأساسية بإلغاء المادة الثامنة من الدستور التى تنص على أن حزب البعث هو الحزب القائد، وأن من الضرورى أن تقتلع هذه المادة من الدستور ويقوم الحزب بنقد نفسه والاعتذار للشعب السورى عن خمسين عاما من الدولة التسلطية التى خنقت الفكر وهمشت الثقافة وأحالت المجتمع إلى رهينة بيد السلطة.
لم يشر الصديق أدونيس بوضوح إلى المجازر والفظاعات التى ارتكبها النظام بحق الشعب السوري. لم يفصل القول فى طبيعة تركيبة النظام فى سوريا التى يعرفها مثله مثل كل سورى وعربى، حيث يتزاوج المال والسلطة والدولة الأمنية وحكم العائلة والنخبة الضيقة؛ وهى تركيبة نجدها فى معظم البلدان العربية خلال السنوات الخمسين الأخيرة، على اختلاف ألوان أنظمة الحكم وأيديولوجيات النخب الحاكمة. لكنه تحدث عن القتل وأشار بنعومة إلى دور النظام فى حفلة القتل التى تطحن برحاها سوريا وتضعها فى مهب الريح، محملا الرئيس بشار الأسد مسؤولية تاريخية ليقوم بتفكيك الأزمة ويدعو إلى تداول السلطة بصورة ديموقراطية ينتخب فيها الناس من يقتنعون ببرنامجه السياسى والاجتماعى والثقافى.
تكفى هذه الدعوة الواضحة من أدونيس لنستقبل رسالته بإيجابية. سوف يتعرض ما قاله أدونيس إلى التأويل والانتقاد، كما فعلت كتاباته كلها من قبل. سوف ينهشه الإسلاميون والقوميون والطائفيون والمذهبيون، ومن فى نفوسهم هوى. لكنه قال كلمته أخيرا فى الشأن السوري، فعلّها تجد صدى فى أذن النظام الذى يجتاح البلدات والقرى السورية مشردا عشرات الآلاف ودافعا بسوريا إلى غياهب المجهول.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة