قبل يومين، كلمنى عادل، أحد رفاق «الكيت كات» القدامى، ممن يحرصون على الاتصال بى بين آنٍ وآخر. وسألنى إن كنت أذكر صديقنا «مرسى إذاعة» القصير؟ وأنا توجست وقلت: طبعاً. حينئذ رجع قال إنه انتقل إلى رحمة الله، وإن العزاء سيقام فى قاعة المناسبات بجامع خالد بن الوليد، وأضاف: يا ريت نشوفك.
فى المساء، غادرت التاكسى فى «الكيت كات» واتجهت إلى مدخل قاعة العزاء الجانبية التى تطل على شارع النيل. استقبلتنى مجموعة من العجائز وشدوا على يدىَّ فى مدخل القاعة شبه المعتمة. دخلت فجلست وصوت المقرئ عالٍ فى الميكروفون، ورحت أبحث بعينىَّ لعلى أتبين أحدًا يعرفنى أو أعرفه، ولم أعثر حتى على عادل الذى اتصل بى. جلست صامتًا، وبدأت مع الوقت أشعر بشىء من الأسى وشىء من البهجة وأنا استحضر «مرسى إذاعة» وبقية أفراد الشلة عندما كنا نتجمع ليلاً فى الأرض الخلاء المواجهة لمقهى عوض الله، مكان قاعة العزاء هذه. كنا نمشى ليلاً على شاطئ النهر، وهو يسبقنا كأنه يتدحرج أمامنا بساقيه القصيرتين ونصفه الأعلى الكامل فى البذلة الفاتحة. كنا نتقدم من هنا حتى كوبرى الجلاء نعبره إلى شارع الجبلاية، ونعود من هناك حتى كوبرى الزمالك، ثم إلى «الكيت كات» مرة أخرى. كان ظهر فجأة ضمن الشلة، وعلمت أنه أحد أفرادها القدامى، إلا أنه كان على سفر، وقد أخبرونى بأن مرسى هذا، الذى لا يتجاوز طوله الآن حوالى المائة والثلاثين سنتيمترًا، كان قبل سفره أطول من ذلك بمسافة قد تصل إلى أربعين أو خمسين سنتيمترًا، وتعرض لحادثة كبيرة جدًا وهو فى الخارج «لكن الخواجات ظبطوه».
فى البداية أخذت الكلام على علاته، ثم بدأت أتأمل ساقيه وأفكر كيف جرت عملية التقصير إذا كانت ركبتاه فى منتصف ساقيه القصيرتين تماماً؟! وهذا يعنى أنه لا يمكن أن يكونوا قصّروا ساقيه، بسبب الحادثة، من أعلى الركبتين ومن أسفلهما أيضاً. ووجدتنى، وأنا جالس الآن، لا أتذكر إن كنت اهتممت بهذه المسألة طويلاً أم لا. ولكننا كنا نعرف جميعًا أنه، رحمه الله، كان مولعًا بأن يكون له السبق فى معرفة ما يظنها أخبارًا أو أسرارًا تخص أى واحد سواء من الشلة أو غيرها، مع أنها غالبًا لا تكون أسرارًا ولا يحزنون، ثم يقوم باختيار المناسبة التى يفشى فيها ما يعرفه بعدما يلجأ لشفرة خاصة أو طريقة تضفى عليها المزيد من الأهمية، وآية ذلك أننا بينما نسهر فى منزل الشرباتى ندخن «الجوزة»، كان مصطفى اللبان قد طلّق زوجته وجاء يسهر معنا دون أن يخبر أحدًا بموضوع الطلاق. ولكن «مرسى إذاعة» الذى كان يعرف الخبر، أراد أن ينقله إلى الشرباتى بطريقة مستترة لا يفهمها أحد الجالسين، فقال على حين غرة: «مش صاحبك، طلق حنفى». الشرباتى نظر إليه ولم يفهم. ومرسى عاد يكرر: «باقول لك، صاحبك طلق حنفى». الشرباتى قال: «صاحبى مين يا جدع، وحنفى مين».
حينئذ نفث مصطفى اللبان الدخان من أنفه وقال: «هو يقصد يقول لك، إن أنا طلقت مراتى».
صمتنا جميعًا بينما أطرق مرسى محرجًا، ثم التفت إلى الشرباتى الذى لم يفهم كلامه قائلاً: «يا ساتر يا أخى، ده انت طلعت حمار بشكل».
ووجدتنى أبتسم من الذكرى وأنا قاعد فى مكانى. وما أن انتهى المقرئ من الربع الذى كان يتلوه، حتى قمت مع آخرين، وعندما كنت أصافح العجائز الواقفين عند الباب الذين صافحتهم عند دخولى ابتسم أحدهم فى وجهى بعينين أليفتين، بينما شد آخر على يدىَّ وهو يقول: «خلينا نشوفك يا إبراهيم».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
waleed handasa
ما تكتبش وتتعبنا معاك تانى يا ابراهيم
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد المصري
أحنا أسفين يا إبراهيم
للأسف لا يوجد قرّاء يقدّروا الفن
عدد الردود 0
بواسطة:
وفاء منصور
انت رجل جميل
تكفى الجملة الاخيرة فى المقال دليلا على حسك المرهف
عدد الردود 0
بواسطة:
hesham
ناس لا تقدر ولا تفهم
عدد الردود 0
بواسطة:
samia
نورت اليوم السابع يا استاذ ابراهيم
عدد الردود 0
بواسطة:
حسام فخر
أستاذنا الكبير
عدد الردود 0
بواسطة:
anas mohamed
كتبت فكنت كعادتك
عدد الردود 0
بواسطة:
Mohamed Sultan
الجهلة يمتنعون