عرف المصريون منذ الأزل الطبقية بكل تنويعاتها، والتمييز بكل أصنافه. ورغم أن غالبية دول العالم، حتى المتخلف منها، تسعى لتكريس مبدأ المواطنة الكاملة من أجل إلغاء تلك النعرات، أو على الأقل السيطرة على تفشيها أو سيطرتها على أنظمة البلاد، بحيث لا تكون تلك الطبقية، وذلك التمييز قانونا يحكم العلاقات بين الدولة ومواطنيها، أو بين المواطنين أنفسهم. إلا أن مصر بكل فئاتها مازالت متمسكة بهذا النهج وتحميه بالقانون والأعراف والثقافات، رغم مخالفة كل ذلك لدستور البلاد، وقانون الله فى العباد، وهو بالتالى ما يجب أيضًا مراعاته بمزيد من الدقة فى الدستور الجديد وكافة القوانين المكملة له.
فالمصريون هم من ابتكروا مصطلح أبناء الذوات، وأول من سنّوا –بحكم القدم- قوانين تجرم العيب فى "الذات" الإلهية، ثم تطور القانون فشمل بعد ذلك الذات الملكية، ثم الرئاسية، ثم انضمت ذوات آخر فأصبح هناك الذات القضائية والبوليسية والعسكرية والبرلمانية وحتى الإعلامية.. وهلم جرا.
والغريب فى هذا الأمر المصرى الصميم الذى يجب تلافيه فى المرحلة الجديدة، أن أصحاب تلك الذوات "المقدسة" التى لا يجوز لمواطن أن يخوض فيها، هم بالأساس مجرد موظفون يتقاضون رواتبهم من قوت الشعب الذى يتعالون عليه، بمعنى "حسنة وأنا سيدك"، وهم أيضًا من جنسه ودمه وعرقه ونسيجه، ولم ينزل أحدهم من الفضاء، ولم ينحدروا من سلالة أباطرة، ولا تجرى فى عروقهم دماء ملونة غير الحمراء التى نعرفها.. فمن إذن أعطاهم تلك "القداسة"، ومن ميزهم عن بقية أبناء الشعب وفئاته؟!
فى العصور السحيقة كان الفرعون هو الإله، وحاشيته من الكهنة والسدنة وحفظة عرشه وحملته، يحكمون بأمره، أى بأمر الله، ويتحدثون بلغة خاصة محظور على الشعب استخدامها، ويلبسون غير ما يلبس، فكانوا هم ذوات تلك المرحلة، أما الشعب فكان منذ ذلك التاريخ وحتى ثورة يناير معزول عن المشاركة فى أى شىء، بل هو فقط مجرد عبد لإحساناتهم.
ورغم مرور آلاف السنين إلا أن المصريين قد ورثوا تلك الحالة الطبقية المتردية، ولكن بتنويعات مختلفة، واستطاعوا بمهارة نادرة أشبه بالإصرار، أن يطوعوها، حسب المرحلة، ويقننوها حسب الحقبة التاريخية التى يعيشون فيها، والتى بدورها – أى حقب التاريخ- لم تحرمهم فى أى وقت من الأوقات من تلك التفرقة أو الطبقية أو الفئوية، بل كانت تتشكل عليهم بكل أصنافها، بدءا من ألوهية الحاكم وظلاله، مرورا بأصحاب العظمة والجلالة والسمو والجناب والمعالى والرفعة والعصمة، وكل "ذوات" المقامات والقامات الرفيعة، وصولا إلى وقتنا الحاضر من "الذوات" الجدد.. أولئك الذين لا يجرؤ أحد على انتقادهم أو مساءلتهم أو إبداء أى ملاحظة عليهم، باعتبارهم أصحاب "عصمة"، لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، رغم أن الجميع قد يرى سوءاتهم، ولكن على كل من يرى أن يبتلع لسانه ويصمت، وإلا وقع تحت طائلة القانون، أو طائلة البطش.
هؤلاء الذوات إذن محميون بالقانون، الذى غالبًا ما يستطيعون هم أنفسهم تشديده لحماية ذواتهم، أو إلغائه أحيانا للإيقاع بأحدهم، أو تعديله لاستيعاب الحالات البين بين. وهى الحالة التى يجب التصدى لها فى العصر الجديد لمصر المحروسة، إذا كانت بالفعل تريد التطور، وتسعى إلى تكريس مفهوم المواطنة الحقيقية والجادة بين أبنائها جميعا، وتريد أن تعلى دولة القانون، التى لا تفرق بين مواطنيها بسبب الغنى والفقر، أو بسبب المحسوبية، أو المنصب، أو الشهادة التعليمية.
فعلى الرغم أنه من غير المفهوم أن يُعصم مسئول فى الدولة، أو جهاز من أجهزتها من المساءلة أو الانتقاد، إلا أن هذا الأمر بات من أساسيات الحياة فى مصر وبديهياتها.. ومن عجب أن يبتكر الذوات الجدد قوانين جديدة وأعراف مستحدثة لحماية أنفسهم، رغم أن أغلب تلك القوانين والأعراف تخالف بنسبة كبيرة نصوص الدستور، الذى أكد أن جميع المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات.. فإذا كان الدستور يقر ذلك، فكيف كان يمنع فى الماضى –عرفا أو خوفا- انتقاد جهاز الشرطة بشكل جدى، ومناقشة عقيدته وفكره وأهدافه ودوره، ولو حدث ذلك فإنه كان يحدث على استحياء ووجل واعتذارات مسبقة، وتأكيد على أن أخطاءهم شخصية ومنفردة ومعزولة، وليست مبدأ ولا منهجًا ولا سياسة دولة ولا أسلوب تعامل ولا عقيدة عند جهاز الأمن بأكمله. وهو الصمت الذى نذوق جميعًا حنظله منذ أحداث الثورة وإلى الآن، والذى يجب أن نعى الدرس من خلاله، وألا نكون قد ضحينا بكل ما حدث من قتل ودمار وكراهية دون مقابل، ونكون أيضًا نمهد لمرحلة جديدة من الفوضى، إذا تكررت ستكون أكثر عنفا ودموية وانتقامًا.
وإذا كانت كل "الذوات" السابقة قد تبدو – رغم زورها - سلطات سيادية وأركان أساسية فى الدولة، فمن عجب أن ينضم إلى طبقة الذوات الجدد بعض الأدباء والكتاب والصحفيين والتليفزيونيين من أصحاب برامج "التوك شو" الأكثر شعبية وجماهيرية، ليس لأنهم ذوات حقيقيون، ولكن عملا بمبدأ "نجمنى أنجمك"، فمن الضرورى إذن كسب رضاهم باعتبارهم جماهيريين، ينتقون الضيوف ويوجهون البرامج، ويذكرون أسماء مطبوعات ويلتقون صحفيين وكتابا ورؤساء تحرير، وهو ما يدفع بهؤلاء تلقائيا إلى شريحة الذوات، بينما لم يكن ينبغى لهم أن يكونوا فيها، ولكنه يمكن اعتبار ذلك أحد إفرازات المرحلة، التى لم تنصب هؤلاء كـ"ذوات" بحكم عرقهم المميز، ولكن لأنهم أيضًا وبمعزل عن الشعب كالعادة، سموا أنفسهم "الصفوة"، و"المثقفين"، ولا أدرى كيف يقرر أى شخص مهما كان أنه من صفوة المجتمع، أو أنه مثقف، فلو أنه كذلك فعلا ما قالها، ولكن يبدو أن ذلك يمكن أن يحدث فى مصر بسهولة، بنفس منطق تسمية الأغنياء لأنفسهم "ولاد الناس"، وهو فى الواقع لا يتعدى كونه مصطلحًا اختصارًا لجملة تامة، هى "ولاد الناس الأغنياء"، ليصبح الأمر مجرد صفة لا ميزة، ولكنهم صدّقوا هذا الاختصار وطوعوه لصالحهم فى مواجهة "الحرافيش" الجدد أيضا، الذين ما عاد أحد يشيد بهم كما فعل نجيب محفوظ من قبل، ولكن بات جميع "الصفوة" يحذرون منهم، رغم أنهم لم يختلفوا، بل إن الذى اختلف هم هؤلاء المتاجرون بهم، ممن "اصطفوا أنفسهم" وميزوها.
إنها الفوضى العارمة التى تشهدها مصر فى العقود الأخيرة وإلى الآن رغم قيام الثورة، فانتشرت الرويبضات، وسعت كل متردية ونطيحة إلى محاولة الانتساب إلى طبقة الذوات التى تسيّدهم على بسطاء الشعب وحرافيشه، وتسمح لهم باختراق القوانين والاستثناء من تطبيقها.
تلك الحالة التى مازالت تحمى مبارك وزوجته من دخول السجن بحجج متعددة، رغم أنهم مجرد مواطنين متهمين بالسرقة والقتل والاحتيال، والعديد من التهم الأخرى المشينة، التى لو اتهم بها مواطن عادى مهما كان مرضه، لكان ملقى به الآن فى أردأ سجون مصر أو على أحسن تقدير فى أردأ مستشفياتها.
وهى نفس الحالة التى حولت لاعبى كرة القدم إلى "ذوات"، ومن رموز الوطن، رغم أنه حتى وقت قريب كانت الطبقات الوسطى تستنكف من إلحاق أبنائهم بفرق الكرة.. وهى أيضا الحالة التى جعلت الممثلين والمغنيين والراقصات "يذوْتنون" أنفسهم أيضًا، ليصبحوا صفوة وقدوة ورموزا، ولكن الثورة فرزت هؤلاء لتردهم إلى أصولهم الحقيقية، بين مجرد بهاليل وعوالم وأراجوزات.. وفنانين حقيقيين انتصروا لفنهم وكرامتهم على أسفلت ميدان التحرير.
تلك الحالة الطبقية الرديئة لم يلتفت لها أحد حتى الآن فى عهد الثورة، ليطالب بتجريمها قانونا، وأصبح الناس فى مصر -بالفعل وليس فقط بالدستور- سواسية أمام القانون، فلا يعصم أحد من النقد الموضوعي، سواء كان مستشارا، أو شرطيا، أو مسئولا أيا كانت حساسية موقعه، ولا يجب أن يحصن أحد من المساءلة أو الخضوع للنقد أو القانون، حتى لا نصنع أصناما جددا، قد يتطلب تحطيمها هذه المرة ثورة حرافيش اجتماعية طبقية. إذا اندلعت فلن تكون بيضاء كثورة يناير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة